بانفعال من الصعب وصفه وبنبرات بدت مثقلة بخليط موجِع من مشاعر الصدمة والحزن حكى لى صديق (هو عالم مرموق أحسبه ضمن أنبه وأنبل أبناء هذا الوطن) حكاية مروعة كان الرجل شاهد عيان عليها.. هذه الحكاية سأنقلها عنه حالا بنصّها تاركا للقارئ الكريم أن يضمها إلى فيض صور وأفلام وشهادات موثقة وتقارير رصدت وسجلت وقائع إجرام أهوج ومخزٍ ومنفلت تماما من أى قيد قانونى أو أخلاقى وإنسانى فضلا عن مجافاته لأدنى اعتبارات المسؤولية الوطنية، ارتكبتها (للمرة المئة) قطعان وعصابات منظمة ومدربة تابعة لجماعة الشر الفاشية السرية طوال ساعات يوم الجمعة الماضى فى شوارع وطرقات قلب العاصمة (ومدن أخرى) بهدف إشاعة مناخ إرهابى تظنه الجماعة المجرمة المجنونة يسهِّل لها تنفيذ حلقة جديدة من مؤامرة هدم مرفق العدالة وسحق ما تبقى من دولة القانون وتخريب أخطر مؤسسات البلد إذا لم يتيسر «أخونتها».
يحكى الصديق أنه كان مرتبطا فى مطلع مساء اليوم المذكور بموعد للقاء مع صديق آخر فى أحد مقاهى وسط البلد، وروى كيف وصل إلى المكان بصعوبة شديدة بعدما سلك طرقا التفافية طويلة حتى يتجنب حروب الشوارع الدامية التى كانت تشعل المنطقة كلها منذ الظهيرة، بيد أنه لسوء الحظ فوجئ بأن المقهى مغلق، ولأنه وصل قبل الموعد بنحو نصف ساعة فقد هاتف صديقه وأبلغه الخبر، فاقترح هذا الأخير عليه أن يلتقيا فى مقهى ثانٍ ليس بعيدا، لكن الطريق العادى إليه يمر من مركز «الحرب» لذلك اقترح عليه السير فى طريق بديل وحذَّره بشدة من أن يقترب من الشوارع المحيطة بدار القضاء العالى حيث تتمركز هناك العصابات الإخوانية المسلحة.
توكَّل صاحبنا على الله ومشى قاصدا الطريق الذى نصحه صديقه به.. وهنا يقول صاحبنا بحسرة: كان يغمرنى شعور عارم بأننى لست فى قلب المدينة التى أعرفها وأعشقها ولطالما استحضرت من تلافيف الذاكرة صورتها وذكرياتها الحلوة لكى تخفف من وطأة أيام الغربة الطويلة وسنينها (درس وتعلم فى أرقى جامعات أوروبا) كانت الأجواء حولى تجعلنى أبدو غريبا غاص فى أشد المشاهد غرابة وإيلاما للنفس.. كنت أرى وأشم دخانا خانقا كثيفا، وتقرع أذنى أصوات فرقعات مخيفة وأزيز طلقات لا يكاد سيلها ينقطع، ومع ذلك هاتفنى فجأة هاتف مجهول وحرَّضنى على أن لا أنفّذ نصيحة صديقى، وقررت أن أمشى فى الطرقات التى حذرنى منها وانحرفت بالفعل صوب جبهة «العمليات الحربية» مدفوعا برغبة لم أستطع مقاومتها أن أشاهد بعينى ما يحدث.. ويا هول ما رأيت.
يستكمل صاحبنا حكايته قائلا: لست أعرف حتى الآن كيف نجحتُ فى الوصول إلى شارع شامبليون فى الجزء المحازى لفناء دار القضاء العالى الخلفى.. كان هذا الجزء من الشارع شبه مظلم لكنه يغصّ بمئات من الشباب أغلبهم يشى مظهرهم العام بأنهم ريفيون بسطاء، وكان يتحرك بين تجمعاتهم العشوائية البائسة شبان آخرون يزينون جباههم بقصاصات قماش أخضر اللون مكتوب عليها عبارة «شباب الإخوان».. لم يكن صعبا إدراك أن مربوطى الجباه هؤلاء هم قادة المعركة وفرسانها المدرَّبون، فقد كانوا جميعا يحملون أنواعا مختلفة من الأسلحة.. عصىّ ذات لون واحد (أبيض) بعضها مزوَّد بنصل معدنى حاد، إضافة إلى الخناجر والسكاكين وعدد من المسدسات المجهزة لإطلاق «الخرطوش».
بدا لى المشهد مرعبا بقدر ما هو خيالى (هكذا تحدث الصديق) وقد زاد من شعورى بالترويع اكتشافى أن رصيف الشارع كله تقريبا مزنر بمئات من الأكياس المملوءة بالطوب والحجارة المرصوص بعضها إلى جوار بعض بطريقة تقطع بأن هذه المعركة مخططة ومنظمة وأن الذين أشعلوها وفّروا لها مسبقا كل الاحتياجات والوسائل القتالية.. وبينما أنا مأخوذ مذهول بالمنظر فوجئت بصوت يهتف خلفى مناديا: يا دكتور فلان.. يا دكتور فلان!
توقفت، والتفتُّ إلى الوراء، فرأيت اثنان من الشباب يحثّون الخطى ويهرولون نحوى وما زالا يندهان.. كان ظلام الشارع يحجب عنى ملامحهما، غير أن انتظارى وحيرتى لم يطولا إذ سرعان ما وصلا إلى حيث أقف وصارا أمامى مباشرة ومد أحدهما يده يسلم علىَّ بحرارة وهو يهتف: ازّيك يا دكتور، بركة إننا شفنا حضرتك.. حضرتك مش عارفنى؟ أنا فلان ابن فلان وده أخويا فلان..
المهم.. عرفت من اسم الأب أن الشابين من بلدتى القابعة فى إحدى محافظات الدلتا.. وبعد أن رددت باقتضاب على السلام والتحية لم أستطع أن أكتم سؤالا حائرا سألته لهما بلهجة وشت بانزعاجى واستنكارى، فقد قلت: إيه يابنى انت وهوه اللى جابكم هنا؟!
رد الشاب الذى صافحنى فى الأول وهو يبتسم ببلاهة ممزوجة بمكر طفولى: إحنا جينا هنا من الصبح مع الجماعة بتوع «الإخوان».. وأهى فسحة ورزق يا دكتور!
فسحة إيه يابنى ورزق إيه.. انت مش شايف البلاوى السودا اللى حواليك؟!
يا بيه.. إحنا مالناش دعوة، آدى إحنا زى ما سيادتك شايف، حاجة كده كمالة عدد وخلاص.. والعيال «الخُضر» ولاد الحرام بتوعهم دول (أشار بيده صوب أحدهم) هما اللى شغالين.. وبعدين 150 جنيه لما ياخدهم النفر مننا، غير الأكل والشرب طول النهار، مش وحشين.. واهو ربك بيستر يا دكتور، وادينا كسبنا مقابلة سيادتك برضه.. والله زمان يا دكتور.. حضرتك مش ح تشرفنا وتنزل البلد قريب؟!
(انتهت الحكاية)