لم أعد أعلم أي فئة من الوطن يمثلها د. البرادعي. فعلا. كان واضحا في البداية أن كثيرا من مؤيديه ينتمون إلى قطاع الطبقة الوسطى المتعلمة، ذات الدخل الكافي بالكاد، غير المؤدلجة، إنما الطموحة إلى حياة أفضل من خلال مشروع وطني جامع. هكذا فهمنا. أسرتي: أبي وأمي وأخي وأختي وأنا أيدنا البرادعي من البداية. جميعنا صوتنا بلا في استفتاء ١٩ مارس. ثم تفرقنا بين القبائل حين انسحب البرادعي من الرئاسة. وقاطعنا الجولة الثانية من الانتخابات - خوفا من تحمل مسؤولية انتكاسة لمصر التي حلمنا بها بسبب أي من الخيارين. يبدو أننا مثله فعلا. تقودنا أخلاقنا المتوهَمة إلى عجز عن اتخاذ موقف واضح.
لكننا لسنا قادة رأي، نحن أسرة عادية من تلك التي يكرهها "النشطاء"، ويصمونها بالعبط والسذاجة، ويسخرون منها ومن سلوكها، وبعض قادتهم يتوعدونها بالتأديب (على يد ثورة الجياع القادمة) وكأننا مصاصو دماء كنا نسحب من "الجياع" قوتهم. حتى السلام الذي نقدمه للآخرين لا نناله في المقابل. لا من سواق توك توك، ولا من سواق ميكروباص، ولا من شباب واقفين على ناصية الشارع يعاكسوا اللي رايحة واللي جاية، ولا حتى من السلطة.
ثم إننا اكتشفنا أن البرادعي لا يعيرنا اهتماما، البرادعي يعتبر نفسه ممثلا لكتلة غامضة حائرة هائمة يطلق عليها "الشباب". الشباب بالألف واللام، وكأنه يعرفهم واحدا واحدا. العجيب أنني حين أتابع هؤلاء "الشباب" - النشطاء - على تويتر وغيره، وحين أتحدث إلى عينات عشوائية منهم، أجد معظمهم لا يعتبر البرادعي ممثلا عنه ولا يحزنون. فمن هم "شباب" البرادعي وما هي رؤيتهم لمستقبل مصر. هل هم شباب ٦ أبريل؟ هل هم شباب "الثورة مستمرة"؟ هل هم شباب "الاشتراكيون الثوريون"؟ هل هم شباب التيار الشعبي؟ هل هم شباب "كلنا خالد سعيد"؟ هل شباب الألتراس؟ من هم "الشباب"؟ لو راجعتي ما ذكرته ستكتشفين أن ولاءات هؤلاء - باستثناء بعض من التيار الشعبي - في مكان آخر تماما.
وهذه نقطة أخرى. لقد صار البرادعي صاحب صيت: ١- صدريه في الوش ٢- اخلي بيه ٣- هينسحب ٤- قولي كلمتين حلوين في حقه ولمي أصوات أنصاره، أو اشتميه ولمي أصوات خصومه. فعل الإخوان ثم أبو الفتوح ثم حمدين هذا.
لقد حول البرادعي نفسه إلى مفعول به على طول الخط. تماما كما حولت شريحتنا الاجتماعية نفسها إلى مفعول به زمنا طويلا، يبدو أنه لم ينته بعد. لا له ولا لنا. تحولنا إلى ما يشبه طائفة أقلية مختبئة بعقيدتها في السر، ومتملقة مضطهديها في العلن. تخجل من "سلوكها المهذب"، بينما يتبجح آخرون بعنفهم وسوقيتهم ورثاثتهم، يتملقها السياسيون، ويسمونها أسماء جميلة لا تكفي لتغطية القبح عن أعين العقلاء. أما شريحتنا فدفعت ثمن تعففها، حسبنا الآخرون أغنياء حتى لو كنا نقضي الشهر إلى الشهر بالكاد، بلا مليم مدخر، ولا قدرة على التحسب للطوارئ. دفعنا ثمن أولوياتنا المختلفة. نحن نضع التعليم في مرتبة عليا، وآخرون يضعونه في مرتبة عاشرة. هؤلاء حين يروننا ننفق على التعليم يحسبون أننا - ولا بد - قد أكلنا ولبسنا واتمزجنا واتفشخرنا، وأن هذا الفائض. لا يعلمون أننا نتعلم، ثم نقتصد في كل البقية. ينبغي هنا الاعتراف: إننا ندفع أيضا ثمن جبننا، ورضانا بالأمان على حساب الأمل، وانغماسنا في صورتنا الذهنية المُرضية عن أنفسنا حتى وإن توقفت عن تحقيق مصلحتنا ومصلحة أبنائنا في الواقع. هل يذكرك هذا أيضا بأحد؟ نعم. هو بعينه.
د. البرادعي يحتاج إلى وقفة عميقة مع النفس. أسرتي الأساسية التي ذكرتها في بداية مقالي، ثم امتدادتها بالنسب والمصاهرة، كل هؤلاء، كلهم، يشكون الآن في قدراتك شكا عميقا. صدقني إن شئت، وتجاهل كلامي إن شئت. نحن أمة في وضع استثنائي. والأمم في الأوضاع الاستثنائية تحتاج إلى سياسيين استثنائيين. يقودونها من القلب، بالعقل، وليس من الأطراف، بالتطبيش. إيمانا بأن الصوت العالي ليس دليل حق. وبأن الصامتين - أحيانا - أكثر حكمة من الصارخين. فتعلم. أو استرح. فوجودك بهذا الشكل صار إعاقة. وجبهتك - بهذا الشكل - صارت إنقاذا للإخوان، وإغراقا لمصر. وأخيرا: الانتقاد فعل للحب، والصمت حكم بالموت