رحل مساء أول من أمس د.مرسى سعد الدين، الشقيق الأكبر لبليغ حمدى عن عمر يناهز 94 عاما، كان الراحل الكبير وحتى اللحظات الأخيرة يعيش الحياة ويمسك بالورقة والقلم يكتب مقالات بالعربية والإنجليزية. مرات قليلة التقيته فى مكتبه بجريدة «الأهرام»، ورغم ذلك كنت أشعر أنه أحد أفراد العائلة الكبار الذين تربطك بهم وشائج قربى ونسب، إنه ينتمى إلى الجيل الذى يصفونه دائما بالجميل، فهو على الفور يعيد إلىّ زمن عبد الوهاب وبليغ ووردة وعبد الحليم.
كان د.مرسى فنانا بالتذوق وسياسيا بالممارسة، وتعرض فى حياته لكثير من الشائعات التى عصفت به، كان إنسانا قبل أن يكون رجل سياسة، وهكذا حيكت ضده المؤامرات التى توقعه فى حالة ضعف إنسانى لكى يتم إقصاؤه عن المناصب الكبرى، لقد تردد كثيرا فى نهاية عهد أنور السادات أن صفوت الشريف مدير مكتبه فى هيئة الاستعلامات قام بتصويره مع امرأة، ولهذا تم إقصاؤه عن رئاسة هيئة الاستعلامات، وكان مرشحا بقوة لمنصب وزير الإعلام، ومن بعدها صعد صفوت لمنصب رئيس هيئة الاستعلامات ثم وزيرا للإعلام 20 عاما.
لم يؤكد د.مرسى هذه الواقعة ولم ينفها، فقط قال لى إن هناك ثلاثة كتبوا عنه تقريرا بناء على طلب من حسنى مبارك، الذى كان يشغل وقتها موقع نائب رئيس الجمهورية، وكان من بين من كتبوا التقرير صفوت الشريف، ولكنه يضيف أن صفوت نفى له تماما مشاركته فى كتابة تقرير ضده أو تصويره خلسة فى المكتب.
وقال لى: «عمرى ما طلبت وظيفة، وناس كتير تقولى إنك ماعندكش طموح.. لا عندى طموح إنى أتقن اللى بعمله، لأن ربنا بيجيب لى الحاجة الأجمل. أنا سعادتى لا توصف عندما أكتب مقالا وأجد أنه يمس وجدان الناس ويصل إليهم، وأتفاعل مع القراء ولكن المنصب قد يسعدنى لحظة ولكنه لم يشكل أبدا هدفا لى».
قلت له: قبل 20 عاما فقدت ابنك الوحيد حمدى وعشت أكبر مساحة حزن. قال لى: «الحمد لله.. أنا حياتى اتغيرت مرتين.. طبعا اتغيرت.. أولا أنا كل إخواتى ماتوا الأصغر منى.. إنما حمدى ابنى الوحيد وكان صديقى أيضا».
قلت له: أنا كنت التقيه كثيرا منذ منتصف الثمانينيات فى مهرجان القاهرة، كان يتولى الترجمة فى الندوات التى تقام بالمهرجان وبأكثر من لغة..
قال لى: «فى 24 ساعة خلص.. حياتى اتغيرت كلها.. زوجتى انت عارف توفيت بعدها عشنا معا 70 سنة كنا مع بعض كنا سوا فى الجامعة.. وراحت.. فحياة الواحد بتبقى مالهاش معنى، ورغم كده باشتغل وباكتب وباروح الجريدة، ماعرفش ده مش معناه إنى عندى برود عاطفى.. طبعا ساعات بافتكرهم كلهم، وحمدى وهو صغير اتولد فى لندن عشان كده أخد الجنسية وابنته اتجوزت.. ربنا يسعدهم إنما برده الوحدة وحشة».
قلت له: قرأت لك مقالا على صفحات «الأهرام» ذكرت فيه أنك على مائدة الطعام هناك دائما طبق لحمدى وله كرسى لا يزال على الطاولة.
فقال: «مقال عنوانه (الكرسى الخالى).. كانت بتيجى عليا فترات أكتب حاجات تخلى القارئ يبكى وبعدين أرجع أقول أنا بطلع اللى فى قلبى.. غصب عنى كتبت عن عنايات زوجتى رحلة الـ70 عاما.. والمؤلم أكتر إنى لوحدى فى الشقة.. وحفيدتى عايزانى أنقل جنبهم.. تقولى علشان يا جدى على الأقل ولادنا نبقى نتركهم لك.. أنا اللى مربى حفيدتى عملت كتاب اسمه (حفيدتى وأنا) تجربة شخصية فى تربية الحفيدة.. الحمد لله الرضا اللى خلانى عايش.. فى فترة سألت نفسى أنا عايش ليه.. فكرت فى الانتحار وعدلت عن الفكرة.. كل إخوتى راحوا وابنى راح ومراتى راحت.. إيه الهدف الواحد عايش اليوم بيومه.. باتقبل اللى جاى وأتقبل اللى راح وأعيش الحياة»!!
وبعد رحيل د.مرسى أتساءل هل الحياة إرادة؟ لم ألتق د.مرسى بعد ثورة يناير ولا أعرف ما تعقيبه بعد إلقاء القبض على صفوت الشريف وملاحقته جنائيا؟ لا أتصور أن من هو فى رقته من الممكن أن يشمت، مع الأسف لم يعد يكتب فى «الأهرام» ولا أدرى هل الجريدة هى التى أوقفت النشر؟ ما أعرفه هو أن من هو مثله يظل يكتب حتى اللحظة الأخيرة، عاش حياته حتى الرابعة والتسعين وأتصوره غادرها وهو لا يزال عاشقا لها.