تابعت وأنا فى المعتقل تسليم الرئيس السابق مبارك جائزة حفظ القرآن فى الاحتفال بليلة القدر لسيدة سجينة لم يتبق على الإفراج عنها سوى عدة أشهر.. وقد صافحها مبارك وسلمها الجائزة.. وقد توقعنا جميعا أن يفرج عنها كعادة الملوك والرؤساء.. فالمعروف أنهم إذا سلموا على المعتقل أو السجين أو استقبلوه لا يرجع للسجن ثانية.
ولكننا فوجئنا بأن المرأة عادت إلى السجن فى نفس عربة الترحيلات التى ذهبت بها.. وكانت هذه القصة مع قصص أخرى كثيرة تدلنا فى كل يوم على أن مبارك ليس فى قاموس حياته معانى العفو والأريحية والتسامح.
وزاد فى شعورنا بهذا الأمر ما أقدم عليه من سجن قائده فى حرب أكتوبر الفريق سعد الشاذلى ودون اعتبار لسنه التى جاوزت وقتها السبعين.. أو تقدير لفضله العظيم فى حرب أكتوبر أو الزمالة والصداقة وأخوة الحرب والكفاح التى جمعتهما فى أشرف حروب مصر فى القرن العشرين.. رغم أن الخلاف الحقيقى لم يكن بين الشاذلى ومبارك.. ولكن بين الشاذلى والسادات.. حيث عرف الأخير فضل الشاذلى وقال عنه «إنه حرك المدرعات على المعابر المقامة على القناة أفضل من حركة السيارات داخل القاهرة نفسها».
كان بوسع مبارك أن يعفو عن الشاذلى دون أن يكلفه شيئا ولكنه لم يفعل كعادته.
وقد ظللت فى السجن أتأمل صلف مبارك وغياب منطق العفو عن حياته تماما حتى قال فى أحد حواراته الصحفية: «أنا لا أعفو عن أحد أبدا».. فصدمتنى هذه العبارة القاسية.. وقارنته بالملك حسين رحمه الله.. فقد دهشت من طريقته كرجل دولة محترف فى مسألة العفو.
لقد حكم الملك حسين الأردن أربعين عاما فى أصعب سنوات السياسة فى منطقة الشرق الأوسط.. وكان قرابة ثلث الشعب الأردنى من الفلسطينيين ينتمون وقتها للتيار اليسارى أو القومى والاشتراكى وكانوا يعادون الملك.. وقد بلغت محاولات الاغتيال والانقلاب على الملك حسين أربعين محاولة.. ولم يُعدم سياسى فى عهده.. وكان ينتهج أسلوبا واحدا معهم.. فيقبض عليهم ثم يحاكمون.. ويحكم على معظمهم بالإعدام.. ثم يخفف عنهم الإعدام إلى السجن فى العام القادم.. ثم يفرج عنهم فى العام التالى.. وهكذا....
أما مبارك فقد أعدم أكثر من مائة سياسى فى 7 سنوات فقط فى التسعينيات عن طريق محاكم استثنائية عسكرية أو أمن دولة طوارئ بلا نقض أو استئناف.. وكلما أعدم مجموعة ثارت مجموعة أخرى لتثأر لهم.. وهكذا.
لقد استطاع الملك حسين بحكمته وتسامحه أن يوقف مسلسل العنف ضده.. وحينما أوقف مبارك مسلسل الإعدامات بعد المبادرة توقف العنف.. وكان وقفه للإعدامات من أعظم الحسنات التى حدثت بعد تفعيل المبادرة. ولعل أهم أسباب زوال ملك مبارك هو الجبروت وغياب العفو والأريحية.. فضلا ً عن الفساد وأكل أموال الناس بالباطل. فقد روى لنا أحد المعتقلين أن أمه تربطها صلة قرابة بمبارك فذهبت إليه بعد اعتقال ابنها الإسلامى فقال لها: «عندك كام ولد.. قالت: خمسة.. فقال: اعتبريهم أربعة».. فى الوقت الذى خفف فيه السادات الحكم عن طلال الأنصارى من الإعدام إلى السجن لما أنشده والده وكان شاعرا مشهورا قصيدة يمدحه فيها ويرجو العفو عن ابنه.. وكان ينتوى إخراجه تماما من السجن بعد فترة بسيطة، ولكن القدر عاجله قبل أن يفعل. إن العفو هو زكاة السلطة والقدرة.. ومن لا يدفع الزكاة تزل منه النعمة.