كانت الساعة قد تجاوزت الخامسة بقليل مساء الأحد، الرابع والعشرين من مارس الماضى، عندما سمعت انفجاراً مكتوماً وأحسست باختلال مفاجئ فى اتزان السيارة التى كنت أقودها فى طريقى إلى الغردقة. بإطار منفجر وسرعة تقترب من 180 كيلومتراً فى الساعة، تسارعت الآن خلايا المخ، واتسعت العينان، وانتفضت حواس البقاء، فوجدت نفسى فى معركة فُرضت علىَّ دون مقدمات فى محاولة لاستعادة السيطرة على دفة سيارة طاشت بى فى كل اتجاه. كانت هذه فى الوقت نفسه بداية سلسلة من القرارات التى ربما تبدو الآن صغيرة لكنّ أصغرها الآن كان يمكن أن يكون حاسماً وقتها فى معركة خاطفة. أول قرار: «لقد حاولتَ بما يكفى ولا يبدو أنك ستنجح فى استعادة السيطرة».
لا بد لى من أن أقبل هذا. ما البديل إذاً؟.. البحر عن شمالك والناس فى طريقك والرمال عن يمينك. لم يكن القرار الثانى فى صعوبة القرار الأول. اتخذت وضعاً دفاعياً وأنا أنحرف بكل ما أوتيت من قوة نحو اليمين. أكاد أرانى الآن، إذ أفقد الوعى، وأنا أتلو الشهادتين واثقاً فى الوقت نفسه من أن الله سيجعل لى مخرجاً.
من تلك النقطة ينمسح جانب من الذاكرة فلا أدرى إن كنت فقدت الوعى وقتها أم أن ميكانيزمات الدفاع عن الذات قمعته بعد ذلك كى لا أذكره. لكنّ بعضاً من شهود العيان، الذين زارونى بعد ذلك فى المستشفى، يملؤون فراغ الذاكرة برواية أقرب إلى مشاهد مقتطعة من أحد أفلام جيمس بوند. «العربية طارت فوووق قوى من على تلة رمل ونزلت مهبودة كده زرع بصل على بوزها وقامت مقلوبة على ضهرها»، هكذا يحكى لى أحدهم، «وبعدين قعدت تتقلب كتير على جنابها لحد ما اتقلبت تانى على ضهرها».
قدماى الآن إلى أعلى ورأسى إلى أسفل عندما استقرت السيارة، وهى من نوع «جيب»، التى قاسمتنى ذكريات عزيزة على مدى خمس سنوات فاستحقت اسمها الذى منحتها إياه: «عزيزة».
أفقت حين أفقت معتدلاً فى مقعد القيادة وأنا لا أدرى كم مر من الزمن. لكنّ أول شىء أذكره حين أفقت كان أصواتاً بشرية كثيرة، متداخل بعضها فى البعض الآخر، خارج السيارة تحاول فتح الباب. كان حزام المقعد لا يزال ملفوفاً حول جسد أشعر الآن بخدر كبير فيه يمتد حتى رأسى. لا تزال الأصوات تبلغنى بينما ينغلق عقلى إلا من ممر واحد يبدأ من هذه اللحظة فى فلترة التفاصيل تركيزاً على الأولويات.
من ممر ضيق حاد بين جفونى ألمح دماً متناثراً على كرة قماشية ضخمة أمام وجهى فأدرك أن حقيبة الهواء قد انفتحت. كانت تلك أول معلومة يقبلها عقلى ضمن الأولويات: أن ارتطاماً قوياً قد حدث. أضيفت إليها المعلومة الثانية حين حاولت أن أمد ذراعى اليسرى علَّنى أساعد الناس على فتح الباب: ألم حاد لادغ فى الكتف والرقبة أعاد ذراعى اليسرى قسراً إلى خاصرتى وجذب ذراعى اليمنى فجأة إلى الإمساك برقبتى ناحية الكتف اليسرى.
فى طريقه إلى هناك اقتنص عقلى، من خلال ممر الرؤية المحدود، معلومته الثالثة: دم جاف متيبس على ظهر كفى اليمنى، ما يعنى أن عشر دقائق على الأقل مرت قبل وصولى إلى هذه النقطة. بأصابع تتحرك الآن بصعوبة ساعدت فمى على أن يتجشأ خليطاً غريباً مزعجاً من الدم واللعاب والرمال والأتربة وشظايا الزجاج.
انفتح الباب أخيراً أمام الناس لكنهم فوجئوا بكفى ترتفع فى وجوههم: «ما حدش يقرّب منى، أنا هنزل لوحدى»، هكذا استجمعت رشادى فى قرارى الثالث الصغير الذى ثبت بعد ذلك أنه كان حاسماً. ثم استجمعت طاقتى شيئاً فشيئاً وأنا أحرك ساقى اليسرى إلى خارج السيارة تبعتها ساقى اليمنى بعد قليل. قابضاً طوال الوقت على رقبتى وكتفى قلت لهم وقد تعرَّفوا الآن على شخصيتى: «ما حدش يلمسنى من فوق، يا ريت حد يمسكنى من وسطى وحد يسند ضهرى». هكذا طرحت نفسى رويداً رويداً بمساعدتهم حتى استلقيت على ظهرى فوق صفحة الرمال. «سيبونى كده لحد ما تيجى الإسعاف».
ولم أكد أكمل الجملة حتى كانت سيارة إسعاف، كنت قد تجاوزتها فى طريقى قبيل الحادث، قد وصلت. «التليفون! هاتولى التليفون من العربية». اتصلت فوراً بزميلى ألبرت شفيق، رئيس قنوات «أون تى فى»، الذى اتخذ بدوره قراراً آخر مهماً. طلب من سائق الإسعاف أن يتوجه إلى مستشفى الجونة البعيد نسبياً بدلاً من مستشفى رأس غارب القريب. ثم اتصل، كما علمت بعد ذلك، بالمسؤولين فى وزارة الصحة لتوفير إسعاف طائر ولو على حساب القناة.
لحسن حظى كان زميلى ياسر الزيات فى الغردقة صدفة فهرول فور علمه إلى مستشفى الجونة. قام المسؤولون عنه وأطباؤه والعاملون فيه بعمل رائع كنت أدركه مما سمح لى عقلى به من ممر ضيق لإدراك ما ينتخب من التفاصيل. ثمانى غرز فى أعلى رأسى حقنت نزيفاً كان لا يزال مستمراً، ثم سلسلة من الأشعات لتحديد مواضع الكسور ومداها. وبينما كان يحدث هذا كان الزميل ألبرت شفيق لا يزال يعافر مع وزارة الصحة التى وضع مسؤولوها أمامه سلسلة طويلة من التعقيدات البيروقراطية لم يشعر معها بالحد الأدنى من توافر حسن النية. فى الوقت نفسه، كانت جريدة «الوطن» قد نشرت أول صورة لى فور وصولى على نقالة إلى مستشفى الجونة ملفوفاً بالضمادات مغمض العينين.
أثارت الصورة، كما علمت بعد ذلك، قلق الكثيرين، ومن بينهم الفريق أول عبدالفتاح السيسى، القائد العام للقوات المسلحة وزير الدفاع.
لم أكن على علم وقتها بتلك التفاصيل، لكنهم أخبرونى فى المستشفى بأن طائرة إسعاف عسكرية ستهبط فى مطار الجونة لنقلى إلى مستشفى دار الفؤاد فى القاهرة بعد قليل. بعينين مغلقتين كنت واعياً لحقيقة أننى لم أشعر بألم أثناء عملية النقل وقد تعدت الساعة الواحدة صباحاً. علمت بعد ذلك أن الأشعات أظهرت كسراً صريحاً فى عظمة الترقوة اليسرى وفى ضلعين من أضلاع القفص الصدرى، إضافة إلى خدش خفيف بأسفل الفقرة الثانية من فقرات العمود الفقرى (وهى فقرة الشنق بالمناسبة) وإن كان الخطر بعيداً عن النخاع الشوكى. أظهرت الأشعات أيضاً ارتطاماً خفيفاً بأسفل الرئة اليسرى، فضلاً عن كدمات وسحجات فى مواضع مختلفة من الجسم.
بوصولى إلى مستشفى دار الفؤاد يبدأ فصل جديد من الاكتشاف. ما رأيته من حب ومن رعاية أخجلنى وأشعرنى أحياناً بالذنب، بدءًا بأساتذة المستشفى، د. هشام الخولى ود. محمد عبدالوهاب ود. حاتم الجبلى ود. ياسر المليجى، وزملائهم ومساعديهم من مختلف التخصصات ومختلف الأجيال، وانتهاءً بأصدقائى الذين تنافسوا على نوبات المرافقة، حسام صبرى وعزة عيسى وحسام السكرى وأحمد رجب ومصطفى المرصفاوى وأحمد خير وهايدى جبران وجابرييل حنا. وبين هؤلاء وأولئك قائمة طويلة من الأصدقاء والزملاء والأحبة الذين دأبوا على رعايتى، أو أدفأوا غرفتى بزياراتهم، أو عبقوا الممر المؤدى إليها بورودهم، أو تطوعوا لعمل شىء أو آخر، أو حاولوا، أو كانت لديهم النية ولم يستطيعوا. أذكر منهم على وجه الخصوص د. عمر عبدالعزيز وحرمه د. سهيلة سعودى ود. مجدى إسحاق وحرمه د. ريتا جاد الرب ود. عمرو منسى ود. حسام عبدالله ود. هشام عيسى.
من الساعات الأولى للصباح كل يوم إلى الساعات الأخيرة من الليل كل ليلة، تحولت الغرفة رقم 2133 إلى بوتقة ضمت أمامى مصر بكل مكوناتها، شكلاً وموضوعاً. ضاع إحساسى بالألم وأنا أتفكر كل يوم فى كل هذا الثراء الذى يجمعنا. فجأة تذوب لحظات الشك والإحباط فى ثنايا أفق لا متناهٍ من اليقين والأمل. من وزير الداخلية إلى حركة شباب 6 إبريل إلى عبدالرحمن عز وأحمد المغير؛ من الكابتن أحمد شوبير إلى شباب بورسعيد إلى ألتراس أهلاوى؛ من المتحدث باسم القوات المسلحة، العقيد أحمد محمد على، إلى خالد علاء عبدالفتاح ومنى سيف؛ من «سلفيو كوستا» إلى «سلفيو» مدينة الإنتاج الإعلامى؛ من نجم قناة «الحافظ»، د. عاطف عبدالرشيد، إلى الفنانة يسرا إلى أنشودة «إسلامية» تتمنى لى الشفاء؛ من خيرت الشاطر إلى حمدين صباحى إلى د. عبدالمنعم أبوالفتوح؛ من مستشار المرشد العام للإخوان المسلمين إلى ميرفت موسى؛ من بلال فضل وباسم يوسف إلى رئاسة الجمهورية؛ من د. حسام البدراوى إلى د. علاء الأسوانى؛ من رئيس اتحاد الفلاحين إلى رئيس اتحاد الناشرين؛ من الأزهر إلى الكنيسة إلى د. يوسف زيدان؛ من «الوطن» و«التحرير» إلى «رصد» و«الأناضول»؛ من «أون تى فى» إلى «مصر 25»؛ من د. درية شرف الدين إلى د. توفيق عكاشة؛ من شباب الإخوان إلى شباب التيار الشعبى إلى شباب مصر القوية؛ من أطفال مستشفى السرطان 57357 إلى مرضى السرطان من الشيوخ فى الغرف المجاورة، إلى د. فريد عبدالخالق، سكرتير حسن البنا، على بعد غرفتين، وقد توفى إلى رحمة الله بعدها بأيام قليلة؛ ومن أحبة أعرفهم أو لا أعرفهم فى السويس إلى آخرين فى قنا والإسكندرية وسيوة وسيناء وغيرها.
مصر كلها فى غرفتى فى بحر أسبوع، فماذا فعلت كى أستحق هذا الحب كله؟ لقد قمت بواجب أتلقى عنه أجراً، بينما يتطوع آخرون بما يتعدى الواجب بلا مقابل. لماذا إذاً يحوطنى نجوم مصر فى السياسة والثقافة والفكر والفن والدين والمجتمع والإعلام بينما تنصرف الأضواء عمن يستحقون؟ ولماذا تنطلق طائرة إسعاف لإنقاذى بينما يموت «نجوم» الثورة الحقيقيون عمداً أو إهمالاً أو لأنهم لا يتحملون تكاليف النقل والعلاج؟ إحساس ثقيل بالذنب يقودنى إلى أن ألتمس من سيادة الفريق أول عبدالفتاح السيسى أن يسمح لى بدفع فاتورة طائرة الإسعاف التى نقلتنى وهو يعلم مدى تقديرى له وفخرى بأن يكون على رأس جيش مصر رجل فى كفاءته وفطنته مثلما كتبت على «تويتر» يوم اختياره قائداً عاماً للقوات المسلحة وزيراً للدفاع. رأيى فى هذا الرجل لم ينبثق هكذا جراء هذا الموقف، بل إنه نشأ عندما التقيته أول مرة فى الأسابيع الأولى من الثورة.
يهمنى فيما يتعلق بشخصى أن أؤكد لمن يهمه الأمر أننى لم أتلق علاجاً على حساب الدولة ولا على حساب محل عملى ولا على حساب أى طرف سوى نفسى، لا فى هذه الحالة ولا فى أى حالة سابقة. ويهمنى فيما يتعلق بالموقف العام أن أؤكد حق كل جندى وكل مواطن فى حد أدنى من المعاملة الإنسانية الوطنية كذلك الذى أصابه الفريق أول عبدالفتاح السيسى حين كان ينبغى على آخرين فى الدولة أن يصيبوه.
وسط حالة من التربص هى، فى جانب من جوانبها، نتاج طبيعى لحالة الاستقطاب، وفى جانب آخر هى نتاج شاذ لحاجة بعض الأطراف إلى إعادة تأهيل نفسى، هل يعنى هذا أننى أروِّج لعودة الجيش إلى إدارة شؤون البلاد؟ كلا، على الإطلاق. لكن سوءات المجلس العسكرى فى تجربته الأليمة فى الشوارع والميادين لا ينبغى لها أن تعمينا عن مجموعة من الثوابت، على رأسها أن جنود مصر من مصر وأنهم لم يقولوا يوماً «طظ فى مصر»، وأن من حقهم أن يساهموا فى كتابة تاريخ هذه اللحظة الخاصة من عمر مصر، وأن من واجبهم أن يحموا مدنية الدولة ضد أى فاشية من أى نوع حين تنشأ الحاجة قبل أن يعودوا مرة أخرى إلى ثكناتهم.
وأهم من ذلك كله، حين أبحث عن تفسير لهذا الحب كله الذى أعرف أننى لن أتمكن، ولو بعد عشرين عمراً، من دفع فاتورته، هو وصولى إلى جوهر المعنى فيما حدث. وجوهر المعنى باختصار لا يتعلق بشخص «يسرى فودة». الحمد لله الذى يمن علينا بإدراك ما لا نملك قبل إدراك ذلك الذى نملك.
جوهر المعنى فى الواقع يتعلق بمصر وحال مصر الذى بلغ من الانقسام وتناقض الآمال وتضارب الأهداف حداً يجد فى موقفٍ كذلك الذى تصادف أن وقع لى فرصة للتفكر وعذراً للالتفاف حول فكرة.. جرس إيقاظ يشد المتناثرين فى كل اتجاه نحو دائرة المنتصف.. نقطة ارتكاز تلخص رحيق النخاع الشوكى لقلب مصر ولروح المصريين.
للباحثين عن أمل، هذه هى مصر الحقيقية التى لا يقترب من قلبى شك فى أنها أكبر كثيراً من هذا الاختبار، على قساوته. تاريخها الطويل الذى يفيض استيعاباً وقبولاً وسماحة نفس يقودنى إلى هذه النتيجة فيملؤنى دائماً بالبِشر والأمل. مثلما تزيدنى قراءتى لما يحدث إيماناً بأننا ندفع الآن ثمناً بسيطاً - على آلامه - لمستقبل لا بد أن يكون أفضل. ندفع ثمناً لعقود طويلة من الظلم والفساد والجهل والإقصاء، لا ذنب لمعظمنا فيها، من خلال عملية معقدة من التعلم كان محتوماً أن تحدث أمس أو اليوم أو غداً. أما وقد وقع المحتوم على رؤوس هذا الجيل فإن من الحكمة قبول التحدى بنفس راضية تقبض على جمر الإيجابية، وتختزل الثمن الذى ندفعه قدر المستطاع، ويحتفظ معها كل طرف وراءه ولو بجسر واحد للعودة، من أجل نفسه إن لم يكن من أجل هذا الوطن.