قبل ثلاث سنوات، أثار مدير فرع «الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر» فى مكة، الشيخ أحمد بن قاسم الغامدى، بعض الجدل، عندما قال إن الحجاب خاص بأمهات المؤمنين وحدهم.
وقبل شهرين، أثار سعودى آخر «الشيخ عبد الله الداوود»، جدلا جديدا، حين طالب بفرض الحجاب على «الطفلة المشتهاة»، حتى لو كانت فى الثانية من العمر فقط.
لكن كلا الجدلين بَقِيا فى السعودية، لم ينتقلا إلى مصر، الجدل هنا، كان متعلقا بفتوى، منسوبة إلى باحث أزهرى، تقول إن الحجاب عادة وليس فريضة، تلك الفتوى المصرية، لم يناقشها أحد فى السعودية، لماذا؟
لأن الأول، الشيخ الغامدى، كان يقصد بكلمة «حجاب» معناها القرآنى فى سورة الأحزاب، أى الحاجز بين الرجال والنساء، أما الثانى، الداوود، فكان يستخدم كلمة حجاب بمعناها السعودى: تغطية الوجه. أما الباحث المصرى، فكان يقصد الحجاب المصرى: تغطية الشعر، وهو أمر ليس محل جدل فى السعودية.
ما غرض هذا الكلام؟
لو أن فتاة مصرية، كانت تناقش فتاة سعودية، حول الحجاب، فكل منهما تتكلم فى الحقيقة عن شىء مختلف تماما عما تقصده الأخرى، فالحجاب السعودى، فى معظم الأحيان، هو النقاب المصرى، لكن الأخير لم يكن كذلك دائما، فقد كانت كلمة حجاب تنطبق هنا أيضا على «البُرقع»، وعندما قررت هدى شعراوى خلع البرقع، غطاء الوجه، أصبحت معروفة، حسب لغة زمانها، بأنها هدى شعراوى «التى خلعت الحجاب»، لهذا تجد ذلك الموقف المضحك، عندما ترى اليوم فتاة مصرية «محجبة» تنتقد هدى شعراوى «التى خلعت الحجاب»، بينما لم تفعل شعراوى سوى أنها، كتلك الفتاة بالضبط، «اكتفت بغطاء رأسها» وخلعت «النقاب»، وحتى اليوم، حين تبحث عن صور لهدى شعراوى، ستجدها فى معظم الصور «محجبة» بمعايير اليوم.
إذن، ما اسم الحالة التى تغطى فيها الفتاة شعرها وتكشف وجهها؟
اسمها «سافرة».
وهو موقف مضحك آخر، إذ تجد فتاة ترتدى الحجاب المصرى «تغطية الشعر»، تنتقد السافرات، رغم أن السفور هو «كشف الوجه»، أى أن كلتيهما «المحجبة» و«غير المحجبة»، سافرتان.
ومن ثم فقد تجد فتاة «سافرة»، تنتقد أخرى «متبرجة»، وهى تقصد بالتبرج وضع مساحيق الزينة.
والواقع أن التبرج لا علاقة له إطلاقا بالماكياج، التبرج هو الخروج من البيت، البيوت هى البروج، والبيوت الكبيرة هى «البروج المشيدة»، و«لا تبرّجن تبرج الجاهلية الأولى» أى «قرن فى بيوتكن».
كالعادة، لا أناقش الفقه والتفسيرات، فقط أشير إلى أنه بينما نظن أننا نناقش الفروض والسنن والصح والخطأ، إنما نحن فى الواقع نتصارع حول «كلمات»، كلمات قد تعنى فى كل مجتمع وفى كل زمن، معانى مختلفة تماما.
والكلمات تنتقل عبر الأجيال، فتتغير دلالاتها دون أن نلحظ، لكننا نتمسك بالكلمة ونحتفظ لها بنفس تأثيرها، فالغضب على هدى شعراوى، لأنها «خلعت الحجاب - كشفت وجهها»، هو ذات الغضب على فتاة فى القرن 21 لأنها «خلعت الحجاب- كشفت شعرها»، رغم أن كلا منهما فعلت شيئا مختلفا عن الأخرى، لكن هذا الغضب غير العقلانى، لأنه الغضب نفسه ضد فعلين مختلفين، يستمر بتحريض من «العلماء»، وهم «علماء» من نوع غريب، إذ لا يمكن التأكد أبدا من كلامهم الغيبى فى حياتنا الأرضية الفانية، لكننا نتبع كلامهم كما تقضى «التقاليد».
وكلمة «التقاليد»، هى مجرد تفخيم لفعل بائس هو «التقليد»، ومن المدهش أن الطفل الصغير، يشعر بالخجل إذا اتهمه طفل آخر بأنه يقلده فى هذا الفعل أو ذاك، لكن ما إن يكبر طفلنا ويصير إنسانًا بالغًا، حتى يمنح فعل التقليد تقديسا من خلال الاحتفاء بـ«التقاليد»، أى الحفاظ على أفعال وعادات تنتمى لأزمنة غابرة لمجرد أن «نقلد» أسلافنا.
والمفارقة الأخرى أن الاحتفاء بالتقاليد قد يكون مبررا فى مجتمع ناجح، أما أن تحتفظ بالتقاليد مجتمعات فاشلة، تعجز عن سد احتياجاتها الأساسية، فضلا عن أن تقدم شيئا للبشرية، فتصر على تقديس التقاليد وحمايتها بالقوانين والدساتير والرقابة الاجتماعية، فذلك يشبه تلميذا يرسب كل عام، وهو يريد من كل قلبه أن ينجح، بشرط واحد، هو أن لا يمسّ بطريقته فى المذاكرة!
بل إنه، هذا التلميذ الراسب، يعتبر كل انتقاد يوجه إلى طريقته فى الاستذكار (إلى تقاليده) نوعًا من «الإساءة»، رغم أن ما يسىء إلى الإنسان هو فشله، لا انتقادات الآخرين لهذا الفشل، وما يسىء إلى الدين، أحوال أهله، وسلوك الذين يمثلونه، وليس ما «نسميه» عبثا «الأفلام المسيئة» وهى كلمة أخرى لا معنى لها.
إذن ليس غريبا أن تجد أناسًا يؤيدون، بل وينتخبون، «كلمات» لم تثبت أبدا أنها أكثر من كلمات، كشعار «الإسلام هو الحل»، الذى لا يعنى شيئا محددا، ولم ينجح أصحابه فى أى مكان. وتجد من يرفضون كلمات أخرى، كالعلمانية أو الليبرالية، رغم أنها نجحت وتحققت بالفعل على الأرض، لكنهم يرفضون «الواقع»، لأنهم يعيشون كليا فى عالم الكلام.