استأذنك عزيزى القارئ أن أفرّ اليوم من مستنقع الوحل والوسَخ السياسى الذى نغرق فيه حاليا بفعل فاعل مجرم عديم الحس والضمير.. سأفترض أنك وافقت على السماح لى بالهرب إلى بساتين الإبداع الرحبة التى لجأت إليها فى ليلة قريبة لكى أغالب أرقًا أطار النوم من عينى فأنفقت الساعات حتى الصباح أقرأ للمرة الثالثة مسرحية «إيفانوف» التى كتبها (على عجل لدوافع مالية بحتة) عبقرى القصص الروسى أنطون تشيكوف (١٨٦٠ - ١٩٠٤).
لسبب بدا لى فى البداية مجهولا، ثم سرعان ما انجلَى وتجلَّى فى رأسى، فإن هذه المسرحية عندما جلست لأكتب السطور تلك وجدتها ماثلة حاضرة فى ذهنى، وبعد تفكير وحيرة لم تطُل خمَّنت (وربما اخترعت) أن علة حضورها المُلحّ قد تكون كامنة فى تلك القاعدة شبه المستقرة فى علم الاجتماع السياسى القائلة إن بعض ما يحدث للإنسان الفرد قد يصيب المجتمعات أيضا.. لهذا فإن حالة السيد إيفانوف بطل مسرحية تشيكوف وصاحب اسمها، مِن النوع الذى يمكن نقله ولو ببعض التصرف وإسقاطه على حال مجتمع تراكمت على كاهله الكوارث وسد حكامه الأشرار أمامه كل سُبل التطور والتقدم فاستسهل الاستسلام لليأس والقنوط وراح ينتحر بدلا من أن يقاوم ظالميه.
هذا بالضبط ما فعله إيفانوف، كما تقول المسرحية التى عُرضت قبل عقود على مسرحنا القومى عن نص ترجمه فاروق الدمرداش وأخرجه ولعب بطولته الراحلون الكبار، محمود مرسى، وحمدى غيث، وسناء جميل، وأمينة رزق.
فمن هو إيفانوف؟ وكيف كانت حكايته.. باختصار؟
إيفانوف شاب مثقف اختل توازنه النفسى فجأة من دون أن نعرف فى البداية سببا لهذا الاختلال، لكن قارئ النص أو مشاهد العرض سرعان ما يكتشف السر، أى ذلك الشعور العميق بالأخلاق والفشل الذى تمكَّن منه رويدا رويدا، وقد كان السبب المباشر فى المعاملة السيئة التى عامل بها صاحبنا زوجته وحبيبته الحسناء «سارة»، رغم أنه فاز بها بعد معركة دراماتيكية حامية الوطيس، إذ كانت الفتاة تنتمى إلى أسرة يهودية متزمتة ومتعصبة ترفض تماما فكرة أن تتزوج ابنتهم من شخص مختلف الديانة.. بيد أن إحباطه واضطرابه المكتوم جعله قاسيا جدا مع الزوجة الطيبة إلى أن ابتُليت بداء «السلّ» فإذا بقسوة الزوج الحبيب لا تقل بل تزيد وتتفاقم أكثر إلى أن تقع الواقعة، وتموت سارة متأثرة بخليط القهر والمرض العضال معا.. هنا يتحول الإحباط المستتر إلى يأس معلن ومهيمن تماما على سلوك وتصرفات إيفانوف حتى تجاه الفتاة «ساشا» ابنة صديقه التى كان يبادلها العشق والغرام وهى مُولَهة بحبه.
لقد بدت «ساشا» وكأنها خلاصَه وفرصته لحياة جديدة ومستقبل أفضل، غير أن إيفانوف كان قد اتخذ قرارا جنونيا بتلوين زمنه الغابر بألوان زاهية وهمية، ومن ثم بدل أن يتطلع إلى المستقبل راح يحلم بأمل مستحيل، هو أن يستعيد ذلك الماضى الذى أسبغ عليه ملامح سعادة كاذبة.
إذن فقد بقى صاحبنا غارقا فى حالته المتأخرة مريضا بماضٍ، رافضا ومقاوما للعلاج المنطقى السهل ألا وهو اغتنام الفرصة لتصحيح مسار حياته وبناء أسرة سعيدة مع «ساشا»، وفى يوم زفافه عليها تحل الفاجعة التى يختم بها تشيكوف مشاهد المسرحية.. يقتحم الطبيب «ليفوف» الذى كان يشرف على علاج سارة مشهد العرس، ويلقى على الحضور آيات من ممارسات العريس غير الأخلاقية مع زوجته المريضة القديمة، غير أن إيفانوف يلوذ بالصمت تاركا محبوبته تدافع عنه وحدها ببسالة وحرارة، وعندما تحاول سحبه من المشهد، يتفلت منها ويسحب مسدسه ويطلق النار على نفسه ويسقط صريعا.. صريع اليأس لا الرصاص.