يبدو النظام الحاكم الآن وكأنه يعيد إنتاج الفيلم السينمائى القديم «سلفنى تلاتة جنيه»، مع استبعاد الجانب المضحك فى الفيلم القديم والأداء العفوى الجميل للفنان الكوميدى الراحل على الكسار، ليتحول الفيلم فى نسخته الجديدة إلى «ميلو دراما» حزينة لدولة ينهار اقتصادها يوما بعد يوم، بينما نظام الحكم فيها لا يفعل شيئا إلا أن يمد يده طلبا للمعونة، وسائلا «اللى يسوى واللى مايسواش».. سلفنى تلاتة دولار!!
يزور المسؤولون المصريون العواصم العربية وغير العربية، ويأتى المسؤولون الأجانب إلى مصر، وتنعقد المباحثات ويقال ما يقال داخل الغرف المغلقة، ثم يقال كلام كثير لا معنى ولا قيمة له، فالسؤال الوحيد الذى ينتظر الإجابة هو: قرض ولا معونة.. أو وديعة ولا سندات؟!
وتستمر المباحثات مع صندوق النقد الدولى «رايح.. جاى»، ويتم تصوير الأمر على أن القرض الذى رفضناه قبل عامين، هو مسألة حياة أو موت، وأنه -إذا تم بحمد الله- فسوف تنفتح أمامنا الأبواب إلى الجنة الموعودة، فإذا سألت عن هذه الجنة التى يعدوننا بها فلن تجد إلا المزيد من القروض التى تنتظر فقط التوقيع على الاتفاق مع الصندوق، والرضوخ لشروطه التى تسحق الفقراء، وبعدها سيقول الحكم أغنيته المعتادة «سلفنى تلاتة دولار».. فيجد بدل التلاتة.. عشرة دولارات!!
بعض القروض قد تكون ضرورية الآن لمواجهة آثار الكارثة الاقتصادية التى نعيشها فى ظل حكم بلا رؤية، وبلا سياسات واضحة، لكن القروض لم تكن يوما هى العامل الأساسى فى نهضة الأمم، والثمن الذى يتم دفعه لسياسة سلفنى تلاتة دولار قد يكون كارثيا، وحين نكون أمام هذا الاندفاع غير الطبيعى لإغراق البلاد فى الديون، فلا بد من وقفة للسؤال عن المحاذير، ولا بد أن نسمع الإجابة من أهل الحكم، بدلا من أن نسمع «الزغاريد» التى يطلقونها كلما حصلوا على قرض أو وديعة.. دون أن يقولوا: ما الثمن؟.. وما نهاية طريق «سلفنى تلاتة دولار»؟!
الديون الخارجية الآن تقترب من 40 مليار دولار، وهى ضعف ما كانت عليه عند الثورة، وقطار «سلفنى تلاتة جنيه» فى طريقه إلى محطة صندوق النقد والقرض الموعود (4٫8 مليار دولار حتى الآن) وبعده سوف ينطلق نحو الوعد الآخر من أوروبا وأمريكا بقروض وتسهيلات فى حدود 15 مليار دولار.
ويقال إن مفاوضات تجرى الآن مع دولة عربية أخرى للحصول على ثلاثة أو أربعة مليارات!!
فإذا أضفت إلى ذلك الرهان الآخر على حصيلة بيع الأصول المصرية فى سوق «الصكوك» التى يصر الحكم على افتتاحها بسرعة، فأنت أمام حقيقة مفزعة، وهى احتمال أن تتضاعف الديون الخارجية على مصر مرة أخرى وخلال بضعة شهور، دون أن يقول لنا أحد أين تذهب هذه القروض؟ وهل سيتم استثمارها لتمويل العجز فى الميزانية فقط، أم فى استثمار حقيقى ومنتج يصنع التقدم، ويوفر فرص العمل ويقضى على الفقر، ويضاعف الإنتاج القومى؟ ومن أين سيتم سداد هذه الديون، خصوصا إذا كانت إحدى مشكلاتنا الآن أن ربع الميزانية يذهب لسداد الفوائد وأقساط الديون، قبل أن تتضاعف بفضل سياسة الحكم الرشيد الذى يتهرب من مسؤوليات الإصلاح الحقيقى القادر على إنقاذ مصر، ليلجأ إلى الحل السهل والمريح: سلفنى تلاتة دولار!! والأخطر من كل ذلك السرية التى تدار بها هذه القضية وغيرها من قضايا الاقتصاد المصرى، وانعدام الشفافية مع انعدام الكفاءة وغياب الرؤية. الشفافية وحدها هى التى تكشف القرض الذى نحتاجه بالفعل من غيره، وهى التى تقول إذا كانت القروض ستذهب إلى مكانها الصحيح أم يتم تبديدها، وهى التى نتأكد فيها أننا لن نحصل على قرض لا نستطيع تسديده، أو سنسدده من بيع الأصول التى نملكها، أو التنازل عن القرار الذى ينبغى أن يظل فى أيدينا.
والسؤال هو: كيف تطلب من الشعب أن يقبل التقشف والتضحية دون أن يعرف لماذا؟!
وإذا كنت عاجزا عن التعامل مع مشكلات مصر، فهل الحل الحقيقى هو التضحية بالحاضر بسحق الفقراء، والتضحية بالمستقبل بإغراق مصر فى الديون؟!
للإجابة عن السؤال يمكنك الاستعانة بصديق من اليونان التى أعلنت إفلاسها!! أو الفرجة مرة أخرى على فيلم على الكسار!! أو أن تراقب زيارات كبار المسؤولين ومباحثات الحكومة مع الدول الأجنبية والهيئات الدولية، ثم تردد مثل كل المصريين: حادى بادى.. قرض ولا سندات ولا وديعة؟!.. ولا تستغرب إذا عرفت أن كبار المسؤولين فى حكمنا الرشيد يفعلون مثلك تماما!!