
الحقيقة أن هذا المخرج واحد من السينمائيين الذين لمعوا في العقد الأخير وهم يحملون شيئاً صادقاً وحقيقياً ومنذ أول انطلاقة له في «فيلم ثقافي» ثم «ليلة سقوط بغداد» وصولاً إلى «بنتين من مصر» وهو يؤكد على أنه يمتلك هذا السحر والسر الخاص لحالة التفرد في الرؤية ولهذا ترقبت فيلمه الجديد «فبراير الأسود» فهو مُخرج لديه قدرة على التأمل الداخلي يسمح لخياله دائماً أن ينضج على نار الإبداع الهادئة، ولكن هذه المرة افتقدت الكثير من المتعة الفنية.
مع اللقطات الأولى للفيلم أطل علىّ لا شعورياً فيلم داود عبد السيد «مواطن ومخبر وحرامي»، كان داود قبل نحو عشر سنوات قد رأي أن الخطر الأكبر الذي عاشته مصر يتجسد في زواج السلطة برأس المال بأدعياء الدين.. هذه المرة نحن بصدد دائرة قريبة أو تنويعة درامية على نفس «الثيمة»، الرؤية التي تبناها المخرج تشير إلى أن النظام المصري السابق كان يقصي رجال العلم بعيداً.
نقطة الانطلاق تبدأ من خلال أستاذ الجامعة خالد صالح الذي يكتشف أن الدولة تفرض حماية فقط لرجال الأمن والقضاء وأصحاب رؤوس الأموال.. يلجأ أمين إلى «الفانتازيا» الإغراق في الخيال وهو منهج يسير على دربه منذ «فيلم ثقافي» ووصل للذروة في فيلم «سقوط بغداد» كنت ألاحظ أحياناً قدراً من الغلظة في التعبير اللفظي والحركي ولكن إجمالاً كنت أقف على نفس الشاطئ مؤيداً لرؤية المخرج.. في فيلمه «فبراير الأسود» كانت لديه فكرة رائعة ولكن الحالة نفسها في التعبير السينمائي على مستوى كتابة السيناريو لم تحقق أي وهج وقفت عاجزاً عن التعبير حتى أبطاله أراهم مطفئون خالد صالح الذي كانت له أعمال فنية عديدة يمنحها قدراً من الخصوصية وتشع ضوءاً، هذه المرة كان هناك شيء من الظلام يغلف ليس فقط الأحداث ولكن الشخصيات حتى في المشاهد التي كان من المفروض أن تبعث على الضحك لم تثر في الكثير من الأحيان سوى النفور.
بطلة الفيلم الوجه الجديد ميار الغيطي ابنة خالد صالح هي الحافز لاكتشاف رغبة بطل الفيلم في توفير الحماية فهو في بداية الأحداث يضيع هو وأفراد عائلته في الصحراء عندما كان في طريقه للواحات بسبب عاصفة رملية ويكتشف أن الدولة لا تهتم سوى بإنقاذ رجل أمن الدولة ورجل القضاء ورجل الأعمال، هؤلاء هم الذين تضعهم السلطة الحاكمة في نني العين أما العلماء أمثال بطلنا فهم خارج الحماية ولا تنقذه هو وعائلته سوى الكلاب ولهذا يقرر أن يفسخ خطوبة ابنته ميار من أحد العلماء الشباب ويبحث لابنته عن عريس من أمن الدولة، وعندما يترك الخدمة ينتقل إلى المستشار وعندما يختلف مع الدولة يتركه بحثاً عن حماية ثالثة المؤكد ستكون من رجل الأعمال. نصل بالفيلم زمنياً إلى فبراير 2011 الذي تمت الإطاحة فيه بمبارك ووصفه المخرج بأنه فبراير الأسود وهو ينهي الفيلم بعلامة استفهام كبيرة، حيث لا ندري على وجه الدقة أين تتجه بوصلة الوطن.. الفيلم مكتوب بعد ثورة 25 يناير والمخرج يعيش بالتأكيد نفس الهواجس التي تسكننا كمصريين، لم ينس المخرج أن يقدم تنويعة عن تواطؤ الإعلام من خلال «فبركة» المكالمات التليفونية.
السينما المصرية قدمت قالب «الفانتازيا» منذ الأربعينيات حيث تجد إرهاصات للمخرج عباس كامل وجاءت نقطة فارقة مع الكاتب والمخرج رأفت الميهي في أفلامه مثل «الأفوكاتو» مروراً بـ «السادة الرجال» و»سيداتي سادتي» و»التفاحة» وغيرها كما إن بدايات شريف عرفة والكاتب ماهر عواد منذ فيلم «الأقزام قادمون» كانت تسير في نفس الاتجاه.
ولكن عرفة ابتعد عن الفانتازيا، والميهي ابتعد عن السينما، بينما «محمد أمين» لا يزال في الملعب، إلا أنه لم يضبط الموجة فلا هو قدم لنا فيلماً خيالياً ولا هو واقعياً، لا أبيض ولا أسود ووقف في تلك المرحلة الرمادية رغم أنه يحمل اسم «فبراير الأسود»!!