هل ينبغى للفنان المبدع أن تكون لديه «حتة لاسعة»؟! كما يقولون «الفنون جنون». الحقيقة أن أغلبهم ستجد لديهم شيئا مما نطلق عليه «لسعان» ولكنه لا يصعد بالضرورة إلى مرحلة الجنون.. تذكرت هذه الكلمة «لاسع» وأنا أقرأ حوارا قديما لمحمد عبد الوهاب عن الفارق بين الشقيقين منصور وعاصى رحبانى.. كان عبد الوهاب بحكم العمل قد اقترب منهما فى العديد من الأغنيات حيث لحن من كلماتهما ووزعا موسيقيا له ألحانا مثل «سهار» و«مُربى» و«سكن الليل» لفيروز و«ضى القناديل» لعبد الحليم حافظ فهو كان على مسافة تكفى ليكشف غموض تلك العملية الإبداعية. السؤال كان يتردد فى حياتهما وزاد بعد رحيل عاصى رحبانى قبل 27 عاما، حيث كان البعض يؤكد أن منصور أيضا مات لأن عاصى هو الإبداع، وهذا ما دفع ابن منصور «غدى» فى خطبة الوداع التى ألقاها فى الكنيسة وهم يصلون على جسد أبيه قبل خمس سنوات أن يهجو هؤلاء المتشككون الذين اعتبروه ظلا لشقيقه فقط لا غير؟!
منصور ولا شك مبدع ولكن عبد الوهاب كان يرى أن عاصى أكثر إبداعا لأنه -لاسع- أكثر فهو دائم الخروج عن القواعد المتعارف عليها أى لديه شطحات فى سلوكه منحته تلك الحالة الاستثنائية.
لم يكن محمد عبد الوهاب معروفا عنه سوى الانضباط الشديد ولكن ربما تجد لديه بعض العادات الغريبة مثل التردد والتوجس بسبب الخوف من العدوى والإصابة بالبرد ولهذا كان يطلب من أصدقائه قبل لقائهم أن يكرروا خلف الباب كلمة مأمون ثلاث مرات، فإذا خرجت صحيحة الميم ميم والنون نون يلتقى بهم، وهو فى مأمن من عدوى البرد.. كان عبد الوهاب يخشى السفر بالطائرة ولم يتخلص من هذه «الفوبيا» إلا بعد أن تلقى أمرا من الرئيس جمال عبد الناصر بالسفر إلى سوريا إبان الوحدة عام 1958 للمشاركة فى حفل وهداه تفكيره إلى التخلص من المأزق بأن يضع يده على قربة مياه ساخنة وعندما زاره مندوب الرئاسة فى منزله ادعى المرض وصدقه بالطبع بعد أن سلم عليه، إلا أن هناك مَن همس فى أذن عبد الناصر، مؤكدا أن عبد الوهاب ليس مريضا ولكنه يتمارض ولهذا أصدر أوامره مباشرة بالسفر صباح الغد بالطائرة وامتثل عبد الوهاب إلى الأمر، ولكنه عندما وصل إلى دمشق كان قد أصيب بارتفاع مفاجئ فى درجة الحرارة ولم يستطع المشاركة فى الحفل، ولكنه من بعدها صار لا يخشى ركوب الطائرة.
بليغ حمدى كان لا يلتزم بموعد حتى إنه نسى يوم زفافه من وردة وسافر فى نفس التوقيت إلى بيروت.. كانت أم كلثوم لا تستقبل أحدا يتأخر ولو دقائق عن موعده، ولهذا كانت تضج كثيرا بسبب عدم التزام بليغ، حتى إنه لم يحضر بروفات أغنية «بعيد عنك» ويومها قررت أم كلثوم التوقف نهائيا عن التعامل معه، لكنها غنت له بعدها «الحب كله» و«حكم علينا الهوى»، وغفرت له بسبب لسعان موهبته ما كانت تعتبره خطيئة لا تغتفر!!
وسوف تلاحظ أنه حتى المنضبطون ظاهريا لديهم تلك اللمحات مثلا عباس محمود العقاد عندما أراد أن ينسى حبه للفنانة الكبيرة مديحة يسرى طلب من صديقه الفنان التشكيلى الكبير صلاح طاهر أن يرسم لوحة لتورتة تحوم حولها الحشرات ووضع اللوحة فوق السرير وكان يقصد بالحشرات أهل الفن، حيث إنه كان يعارض اشتغال مديحة بالتمثيل.. وكان العقاد قبل أن يذهب إلى سريره ينظر إلى اللوحة بضع دقائق ثم ينام قرير العين، ورغم ذلك فلقد كتب بعدها عنها أكثر من قصيدة حب!!
الملحن محمد القصبجى كان مغرما بإصلاح الساعات، وكان يحتفظ دائما بأى قطع قديمة يجدها فى طريقه حتى ولو كانت مجرد علبة سجائر فارغة وعند رحيله وجدوا شقته مليئة بالساعات القديمة والكراكيب.. الراحل عادل أدهم كان مولعا بتلميع أحذيته بنفسه ويتفنن وهو يضع عليها الورنيش، وكأنه يلتقى بمحبوبة بعد طول اشتياق، بينما حلمى بكر له هوايتان الأولى هى الزواج من الفتيات الصغيرات حتى أنهم أطلقوا عليه «حلمى يار» وفى قول آخر «بكريار» وفى أوقات الفراغ بين زيجة وأخرى يتفرغ للهواية الثانية وهى إصلاح السيارات القديمة، فهو لديه أذن متخصصة فى التمييز بين صوت «شكمان» عربة منفلت بنفس درجة تمييز صوت المطرب النشاز!!