واشنطن تراجع موقفها من الإخوان المسلمين منذ زيارة وزير الخارجية القصيرة إلى القاهرة فى شهر مارس
خبراء أمريكيون: ثلاث نقاط للتوتر بين أمريكا والإخوان هى التعامل مع الأقباط وانفلات الأمن فى سيناء والحرب على الإرهاب
لا جدال على أن العلاقات الأمريكية-المصرية تلعب دورًا مهمًّا فى تشكيل السياسات الخارجية والمحلية للقاهرة، سلبًا وإيجابًا، وأنها، بين عوامل أخرى كثيرة، ستؤثّر على مسار الثورة والإصلاح فى مصر. وعلى مدى عدة أشهر بدا أن واشنطن تدعم حكومة يقودها الإخوان المسلمون من منطلق أنها ستحافظ على «أو على الأقل لا تتحدى» المصالح الأمريكية الأساسية فى المنطقة. ولكن يبدو أن واشنطن تراجع موقفها من الإخوان المسلمين منذ زيارة وزير الخارجية جون كيرى، القصيرة إلى القاهرة فى شهر مارس، وأن هناك اختلافًا بين المحللين المعنيين بالمنطقة، وربما داخل الحكومة الأمريكية، وأيضًا بين مؤسساتها، خصوصًا بين الخارجية ومجلس الأمن القومى «داخل البيت الأبيض» والكونجرس ووزارة الدفاع، وهو اختلاف وجهات نظر وأولويات، ظهر منذ تولّى الرئيس محمد مرسى السلطة الصيف الماضى ويدور حول طبيعة المصالح الأمريكية فى المنطقة، وماذا تريد واشنطن من القاهرة، وهل ينبغى أن تستمر فى مساعدتها اقتصاديًّا وعسكريًّا وسياسيًّا مباشرة أو عن طريق الحلفاء فى المنطقة؟
يرى روبرت ساتلوف رئيس معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، وصاحب الصوت المؤثّر فى سياسات واشنطن فى الشرق الأوسط، إن الدعم الأمريكى لمصر يجب أن يحقّق عدة أهداف مهمة هى تأمين الملاحة فى قناة السويس، واستمرار علاقات السلام مع إسرائيل، واستمرار احترام مصر لتعهداتها الدولية «ويعتقد مراقبون أنه يقصد أن لا تفكر مصر فى الأسلحة النووية وتظل ملتزمة معاهدة حظر انتشار أو تجارب الأسلحة النووية»، ومواصلة دعم واشنطن فى الحرب على الإرهاب.
ولكن معظم هذه المصالح فى واقع الأمر هى مصالح مصرية، ومن المستبعد أن تقف القاهرة ضد مصالحها هى نفسها. ويرى أستاذ السياسات العامة فى جامعة هارفارد طارق مسعود، أن أى حكومة فى القاهرة سترغب فى استمرار وتأمين الملاحة فى قناة السويس، لأنها مصدر أساسى ومهم للعملة الصعبة لبلد يترنّح اقتصادها وتنخفض احتياطياتها مثل ماء فى برميل مثقوب، وتفقد عملتها قيمتها مقابل الدولار «من ١٥ إلى ٢٣ فى المئة» منذ بداية السنة. ولا رغبة هناك ولا مصلحة فى القاهرة فى ضوء اختلال توازن القوى الرهيب أن تقع حرب نظامية ضد إسرائيل أو أن تُنتهك معاهدة السلام. قد يصبح السلام مع إسرائيل أكثر برودة مما كان أيام مبارك، حليف واشنطن وتل أبيب الوثيق، وقد لا يجرؤ الإسرائيليون على القيام بحملة عسكرية دموية على غزة مثلما فعلوا فى الرصاص المصبوب منذ أربعة أعوام، لكن أداء حكومة مرسى حتى الآن والضعف الاقتصادى الهيكلى واستمرار الاختلال الاستراتيجى الفادح «عسكريًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا وإقليميًّا» يجعل تأمين الملاحة فى قناة السويس واستمرار معاهدة السلام مع إسرائيل فى مصلحة مصر مثلما هما فى مصلحة الولايات المتحدة.
ويرى مسعود عن حق أن المشكلات الرئيسية ونقاط التوتر بين القاهرة وواشنطن ستتركز على ثلاث مسائل.
الأولى، هى تعامل وسياسات الحكومة الإخوانية مع الأقليات القبطية، وإلى حد ما المرأة، وهذه نقطة لن يتركها الكونجرس بسهولة ولا تنفع فيها تصريحات عجيبة مثل التى صدرت من وزارة الداخلية وأعضاء مجلس الشورى حول دور الأقباط فى جلب الاضطهاد على أنفسهم. وستكون هذه فرصة عظيمة أيضًا للصيد فى الماء العكر من جانب مَن يريدون لسبب ما أو لآخر إضعاف مصر أو من جانب اليمين الدينى المسيحى الأمريكى المنهمك ما زال فى صراع الحضارات «وللمسيحيين فى الغرب سلفيوهم هم أيضًا». والمسألة الثانية هى انفلات الأمن فى سيناء، والذى ينذر بتصرفات رعناء من جانب إسرائيل ردًّا على أو استباقًا لهجمات من جانب جماعات مسلحة فى سيناء أو متسللة قدومًا من غزة. وثالثًا، وأخيرًا، الحرب ضد الإرهاب، حيث يعتقد مسعود أن الحكومة الإخوانية قد تخفّض مستوى التعاون «فقد ذهبت أيام عمر سليمان الذى عرض إرسال ذراع متهم يجرى تعذيبه فى مصر كى يجرى عليها الأمريكان اختبارات الحامض النووى بأنفسهم بعد أن طلبوا منه عيّنة».
يحب البعض من معتنقى نظرية المؤامرة أن يقولوا إن الاهتمام الأمريكى بالأقباط فى مصر منشأه دينى فقط، وهو دعم من مسيحيين أمريكيين من اليمين القوى لمسيحيين مصريين. وربما الأمر هكذا فى جانب منه، ويماثل بصورته تلك دعمًا واسعًا من الجماعات الإسلامية فى المنطقة العربية لمسلمى البوسنة وبورما حتى آخر القائمة. لكن هناك جانبًا كبيرًا متعلقًا أيضًا بحقوق الإنسان وضغط المنظمات الدولية وجماعات الضغط المحلية وغيرها، بما فيها من غير المهتمين بالأقباط «والذين أيّد كثير منهم بالمناسبة مسلمى البوسنة وبورما أيضًا من باب حقوق الإنسان». وكل هذه الأطراف تضغط جميعًا على الكونجرس الذى يوافق على مئات الملايين من الدولارات سنويًّا مساعدات لمصر، ويمكنه أن يلعب دورًا سلبيًّا سياسيًّا يؤثر على مصالح مصر، من المساعدات وحتى الدعم السياسى لمصر فى محافل أخرى. ولا يفيد القاهرة استمرار التصريحات الطائفية الطابع، التى يرى مسعود ومحللون آخرون أن الإخوان المسلمين ينشرونها أو يتغاضون عنها، وهى تصريحات تلقى بالمسؤولية فى أحداث العنف الطائفى على الجانب الأضعف وتستعمل مقولة «هو إيه اللى ودّاهم هناك؟». طبعًا الحكومة المصرية تقود دولة ذات سيادة وهى حرة فى ما تفعله، ما دام لا ينتهك هذا قوانينها هى نفسها وتعهداتها الدولية، وما دامت واشنطن لا تمنحها مساعدات، وتنتظر الفرج من شهر إلى آخر من قطر أو صندوق النقد الدولى. بمعنى آخر لا حاجة إلى نظرية المؤامرة هنا، فالدول تقدّم مساعدات «من الدوحة لواشنطن» بالدرجة الأولى من أجل دعم مصالحها أو لتفادى مشكلات قد يثيرها الطرف المتلقى، وإذا تجاهلت مصر تلك المصالح الأجنبية «وهو من حقّها» فليس لها أن تغضب، أو تندهش، إذا غيّرت واشنطن مواقفها، أو سحبت فلوسها أو دعمها لقرض الصندوق الدولى. إن تقاعس الشرطة أو تخاذلها عن حماية الأقباط «والفقراء والنساء وسكان العشوائيات إلى آخر القائمة الطويلة» واستمرار اللجوء إلى جلسات الصلح العرفية لن يؤجّج فقط صراعًا طائفيًّا فى مصر، لكنه سيفتح بابًا كبيرًا ومشرعًا لكل خصوم القاهرة فى الكونجرس وفى بروكسل «مقر اللجنة الأوروبية»، ليقفوا فى وجه ومصالح القاهرة، ولن يفيد الإخوان والحكومة ساعتها لعبهما دور الوسيط العاقل مع حماس، وهو الدور الذى أكسبهم نقاطًا عدة مع الإدارة فى واشنطن فى الخريف الماضى. والإدارة وحدها لا تصفق إذا لم يقف الكونجرس معها، وسيفيد حكومة الإخوان أن تفهم أكثر ديناميات واشنطن، هذا إذا كانوا مهتمين بالإبقاء على علاقات طيبة «وليست علاقات تبعية» مع واشنطن.
هناك طبعًا مصالح أمريكية قحة تحميها وزارة الدفاع الأمريكية وصناعة السلاح تدعم استمرار الدعم العسكرى لمصر «٣ .١ مليار دولار»، حيث هناك آلاف من العمال الأمريكيين وتعاقدات وخطط عسكرية أمريكية ومناورات مشتركة، النجم الساطع، يرغب البنتاجون فى بقائها كجزء من منظومته العسكرية فى المنطقة. ولعل العلاقات العسكرية العسكرية هى أقوى جانب فى العلاقات المصرية-الأمريكية المتشعبة وأكثرها وضوحًا فى الفائدة التى يعود بها على الطرفين.
ولكن إذا استثنينا هذا الدعم المعتاد من جانب البنتاجون للجيش المصرى، ماذا تبقّى لمصر من «دلال» على الولايات المتحدة؟ أو بمعنى آخر لماذا تبقى الولايات المتحدة على علاقة خاصة تشمل المساعدات المادية والسياسية لمصر إذا كان النفط يتدفّق من الخليج ولمصر مصلحة محققة فى استمرار ناقلات النفط وغيرها من السفن التجارية فى عبور قناة السويس وإذا كان الجيش الإسرائيلى ما زال أقوى من كل الجيوش العربية مجتمعة، ولا أى مؤشرات هناك على أن المؤسسة العسكرية المصرية التى احترمت كامب ديفيد وأمّنت حدود مصر مع إسرائيل منذ ٣٤ عامًا ستغيّر مواقفها الفعلية؟ مصالح أمريكا فى مصر كما يراها معظم الأمريكان، خصوصًا من أتباع المدرسة الواقعية، ليست مصالح إيجابية بل مصالح سلبية. وبمعنى آخر واشنطن تساعد القاهرة حتى لا تتسبب القاهرة فى مشكلات «غلق قناة أو إرهاب أو مزيد من التفكك للدولة». أن تصبح مصر دولة قوية أمر لا يضر المصالح الأمريكية ما دامت كانت هذه الدولة القوية لن تدخل فى مغامرات عسكرية ضد السعودية أو إسرائيل. طبعًا دولة قوية عاصمتها القاهرة لن تكون حليفًا طيّعًا كما كانت أيام مبارك، لكن حتى الأمريكان أنفسهم أدركوا مدى ضعف وقلة حيلة هذا الحليف الطيّع الذى صارت معه المساعدات الأمريكية مجرد إتاوة هامشية لدولة تترنّح حتى لا تثير هذه الدولة مزيدًا من المشكلات.
ويدفع مثل هذا التحليل معلّقين مثل مايكل حنا زميل مؤسسة القرن Century Foundation، لإثارة تساؤل بدأ يظهر فى واشنطن أكثر: ماذا لو سقطت مصر؟ «وبغض النظر عن الإجابات الحكومية العنترية المصرية من عينة مَن يقولون إن مصر ستفلس فهم المفلسون»، فإنه سؤال وجيه من وجهة نظر مدرسة الواقعية الدولية فى الخارجية الأمريكية، كما أن مَن لا يستطيع أن يرى أن قطار الاقتصاد المصرى قد تنتهى قضبانه القطرية الممدودة من الدوحة فى وقت ما ويرتطم بضعفه وهوانه الهيكلى المريع فى حادثة مدوية. ويرد حنا قائلًا «مصر ليست أكبر من أن تفشل»، وينطلق حنا وأمثاله من وجهة نظر أن واشنطن يجب أن تكون أكثر حزمًا مع القاهرة والإخوان، ولا تخشى من الفزاعة الجديدة التى يثيرها بعض المتحدثين باسم الإخوان من أنه لو راح الإخوان لأتى السلفيون ومعهم انهيار الدولة وأن سقوط مصر وفشلها اقتصاديًّا ثم سياسيًّا سيؤثر على كل المنطقة وعلى أمن إسرائيل وأمن الخليج. ما يريد حنا وآخرون قوله ببساطة إنه حتى مصر لم تعد ربما تستحق المساعدات لتجنّب المشكلات التى يمكن أن يثيرها فشلها كدولة وكنظام. فلتفشل مصر، هذا ما يرمون إليه، ولنرى ساعتها كيف أن هذا الفشل ليس كابوسًا ضخمًا. طبعًا هذه سياسة قصيرة النظر ولن تتبعها واشنطن فى الأغلب، كما أن للبنتاجون مصالح أشرنا إليها، ولكن أن يتم مجرد الحديث عن عدم اهتمام واشنطن باستقرار القاهرة يظل مؤشرًا خطيرًا.
يجب أن نتعامل مع مثل هذه التحليلات والآراء بجدية. والأهم أن نتوقف عن إصدار بيانات جوفاء باللغة الإنجليزية. ويقول ساتلوف وهو معلّق محنّك مقرّب من أنظمة عربية عديدة ومن مسؤولين إسرائيليين «يجب أن تحدّد أمريكا علاقاتها مع مصر بناء على ما يفعله الحكام الجدد فعلًا بشأن هذه القضايا (التى أثارها) وليس بناء على الغثاء الصادر من متحدثيهم باللغة الإنجليزية فى حواراتهم مع السياسيين والدبلوماسيين والصحفيين الأمريكيين».
لا أفيد لمصر، وفى الحقيقة، لواشنطن فى نهاية المطاف سوى مصر أقوى وأكثر ديمقراطية ورخاء لشعبها، لكن السياسات الخارجية الأمريكية غالبًا ما كانت قصيرة النظر ويبدو أنها تجد فى القاهرة منافسًا لها.. فى قصر النظر.
- استشارى بالأمم المتحدة ومبادرة الإصلاح العربى.