أمضيت الأسبوع الأخير من الشهر الماضى فى مدينة أكسفورد الجامعية الساحرة التى بدأت بها غربتى الأوروبية عن مصر قبل أربعين عاما، وكانت الدعوة التى جاءتنى للمشاركة فى ندوة عن الراحل المصرى الكبير محمد مصطفى بدوى، الذى سيكتمل بعد شهر عام على رحيله، قد وقَّتت موعد الندوة بصورة جعلته أيضا موعدا شخصيا بالنسبة إلىّ، حيث تصادف أن يكون فى الأسبوع الذى وطِئَت قدماى فيه لأول مرة أرضا أوروبية قبل أربعين عاما. وكان أول ما شغلنى من تأملات الوقوف على الأطلال، هو تذاكر أهم الدروس التى تعلمتها من تجربتى الأوروبية الطويلة، وهو أن وعى الثقافة الغربية بأهمية الذاكرة التاريخية، واعتبارها أحد المسلمات الثقافية بل والوطنية، يناظره إهمال جسيم للذاكرة التاريخية فى الثقافة العربية على جميع المستويات. إلى الحد الذى يمكن أن نسمها معه بثقافة فقدان الذاكرة.
فما جاء بى إلى أكسفورد هذه المرة هو حرص تلاميذ الباحث والأكاديمى المصرى الكبير محمد مصطفى بدوى، الذين أصبحوا الآن أساتذة فى مختلف الجامعات العربية والأوروبية والأمريكية، على إرهاف تلك الذاكرة التاريخية، وتعلم دروسها. فحينما مات بدوى فى 19 أبريل 2012 حرص تلاميذه على أن يتحول تأبينه إلى وثيقة تاريخية تسجل دوره، وتتأمل تأثيره، وتمحص إنجازاته. وهو أمر أساسى كما ذكرت فى الثقافة الغربية. فقد شاءت الصدف وأنا أكتب الآن عن هذا الاحتفاء أن ماتت رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارجريت تاتشر، فكان أول ما قرره رئيس الوزراء، هو دعوة مجلس العموم للانعقاد لمناقشة ميراثها السياسى، وتعلم دروسه. ناهيك بامتلاء الصحف البريطانية على اختلاف مشاربها بالمقالات التى تقوم بهذا التقييم، وتتعلم دروسه. تناقش ما لها وما عليها، وما خلفه ميراثها السياسى من آثار على الواقع البريطانى، وعلى موقف بريطانيا من بقية بلدان العالم.
والواقع أن الاهتمام بتقييم أعمال أى أكاديمى مرموق فى الغرب والاحتفاء بإنجازه قد تحول إلى تقليد راسخ يكرسه ما يسمى بالكتاب الاحتفالى Festschrift الذى يكتبه عدد من تلاميذه وزملائه تكريما له حينما يتقاعد، أو الكتاب التذكارى Gedenkschrift الذى يقوم بنفس الشىء، ولكن فيه قدر أكبر من التقييم لإنجازه وتمحيص أعماله، ويصدر عادة بعد وفاته. والواقع أنه برغم عدم اهتمام الثقافة المصرية كثيرا بإنجاز بدوى، فإن أصدقاءه وزملاءه وتلاميذه الأجانب قد اهتموا بالاحتفاء به، فى كتاب احتفالى صدر كعدد خاص من المجلة العلمية التى أسسها بالإنجليزية (مجلة الأدب العربى Journal of Arabic Literature) عقب تقاعده عام 1992. وها هم يجتمعون من جديد بعد أقل من عام على رحيله، لعقد هذه الندوة عنه، وسوف يصدر عن أعمالها كتاب تذكارى، كما قرر المنتدون.
والواقع أن محمد مصطفى بدوى (ولد بالإسكندرية عام 1925 وتوفى فى أكسفورد عام 2012) أحد أهم القامات الثقافية المصرية المضيئة فى أوروبا، كان نتيجة مشروع طه حسين التنويرى الكبير والذى بلوره فى كتابه (مستقبل الثقافة فى مصر). وتجسدت أهم مؤسساته فى جامعة الإسكندرية التى أنشأها طه حسين وكان أول رئيس لها، لتكون نافذة الثقافة المصرية على أوروبا. فقد كان بدوى من أوائل الدفعة الأولى لتلك الجامعة، فابتعث إلى انجلترا لإكمال دراسته للأدب الإنجليزى، وعاد ليدرسه فى جامعة الإسكندرية، وليترجم عام 1962 كتاب ريتشاردز المهم (مبادئ النقد الأدبى) الذى قدم النقد الجديد للأدب العربى. ولينشر رسالته للدكتوراه عن «كوليريدج ناقدا لشكسبير»، ويصدر بالعربية كتابا عنه.
لكن تصاريف حياته شاءت أن يكون بحق جسرا بين الثقافتين، وفى الاتجاهين معا، فأخذته إلى إنجلترا من جديد حيث عمل فى جامعة أكسفورد أستاذا للأدب العربى الحديث منذ عام 1964 وحتى تقاعده. وكان له فضل وضع الأدب العربى الحديث على خارطة الاهتمام الثقافى الغربى والجامعى معا. بعد أن كان هذا الاهتمام قاصرا على الآداب القديمة وحدها، بدعوى أنه كانت للعرب ثقافة قديمة ودرست، وأنه ليس فى حاضرهم ما يستحق الاهتمام أو الدراسة. وتأسيس دراسته على أساس صحيح من وحدة الثقافة العربية والأدب العربى من المحيط إلى الخليج. فمع أن الغرب حريص على تفتيت العالم العربى وتجزئته عند التعامل معه، فإن دراسة أدبه فى مؤسساته العلمية تقر بوحدته وتعززها.
وكرس بدوى بقية حياته الأكاديمية لدراسة الأدب العربى الحديث والكتابة عنه بالإنجليزية. فقد كان همه الشاغل أن يكوّن مكتبة إنجليزية تقوم عليها دراسة الأدب العربى دراسة جامعية. فكتب بالإنجليزية (مقدمة نقدية للشعر العربى الحديث) 1975 وهو من أهم ما كتب عن الموضوع باللغتين، و(الأدب العربى الحديث والغرب) 1985 و(المسرح العربى الحديث فى مصر) 1987 و(بدايات المسرح العربى) 1988، وحرر مجلدا ضخما عن الأدب العربى الحديث ضمن مجلدات «تاريخ كيمبريدج للأدب العربى»، كما ترجم للإنجليزية (قنديل أم هاشم) ليحيى حقى و(سارة) لعباس العقاد، و(اللص والكلاب) لنجيب محفوظ، و(مختارات من الشعر العربى) وغيرها. ثم كرس سنوات حياته بعد التقاعد للعودة إلى تخصصه الأول فى أعمال شكسبير، فترجم المآسى الشكسبيرية الكبرى للعربية ترجمة جديدة، وترجم معها شعر فيليب لاركن وغيره.
والواقع أن الأدب العربى الحديث لم يكن له وجود فى المؤسسة الجامعية الغربية قبل وفوده إليها، فأصبحت له الآن كراسى عدة فى مختلف الجامعات الأوروبية والأمريكية، يحتل معظمها تلاميذ له علمهم طلابا وأشرف على رسائلهم فيه. لأن من تلاميذه روجر آلان (جامعة بنسلفانيا)، وروبن أوستل، وجوليا براى (جامعة أكسفورد)، وهيلرى كيلباتريك (جامعة لوزان)، ومريام كوك (جامعة براون بأمريكا)، وميرلين بوث (جامعة إدنبره) وغيرهم وغيرهن من الذين كتبوا عن الأدب الحديث بالإنجليزية، ونشروا الوعى الصحيح به فى ربوع أوروبا وأمريكا.