فى أحد محلات السوبر ماركت استوقفنى برطمان بلاستيكى يشبه «البلاص» الفخار مكتوب عليه «عسل الأبنودى»، سألت البائع، قال لى هذا عسل أسود من الصعيد، أطلقنا عليه اسم عبد الرحمن الأبنودى من أجل زيادة ترويجه، وتذوّقته ووجدته نوعًا جيدًا جدًّا من العسل يليق حقًّا باسم الأبنودى.. ولم يكن هذا المحل حالة خاصة، حيث إن العديد من المحلات المجاورة أطلقت دون اتفاق مسبق على نفس هذا النوع من العسل اسم الأبنودى!!
إنه رأى رجل الشارع البسيط فى شاعرنا الكبير ولم يطلق المصريون على العسل الأسود اسم الأبنودى عشوائيًّا، بل لأنه يعنى فى العرف الشعبى الطعم اللذيذ المتوفر بأقل الأسعار.. فهو شاعر شعبى كلماته ومفرداته يتعامل بها البسطاء فى حياتهم، من الممكن أن يشاهده الناس بينهم يتجوّل فى الشارع ويغمس معهم لقمة مش أو يمص عود قصب، ولهذا أطلقوا اسمه على أكلة شعبية رخيصة فى متناول الجميع.. المؤكد أن الإحساس الشعبى الذى ارتبط بعبد الرحمن الأبنودى شاعرًا وإنسانًا وجد نفسه متّجهًا إليه وتعاطف معه ومنحه «زلعة» من الحب تشبه الصعيد الجوّانى الذى أتى منه الأبنودى ولا يزال يحمله فى أعماقه.
تعوّد المصريون على أن يرددوا أسماء المشاهير على البضائع المختلفة حبًّا أو كرهًا.. فلقد أطلقوا قبل خمس سنوات على أردأ أنواع المخدرات اسم عصام الحضرى حارس المرمى الذى هرب من النادى الأهلى بعد حصول مصر على كأس إفريقيا، انتقموا منه فاعتبروه عنوانًا لمخدر «مضروب»، كما أطلقوا اسم جمال وسوزان ومبارك والعادلى وعز فى رمضان قبل الماضى على أردأ أنواع البلح وهو «المسوس» الذى يباع بأرخص الأسعار.. وعندما صعدت نانسى عجرم وأليسا وشيرين قبل عدة سنوات كانت أسماؤهن على أفضل وأغلى أنواع البلح فى رمضان.. كما أن اسم هيفاء وهبى يطلق على جلباب مثير، وهناك جلباب آخر به دلع ودلال باسم نانسى، وثالث به إغراء باسم روبى.. أديبنا الكبير نجيب محفوظ أطلقوا اسمه على قلم غالى الثمن، تقديرًا لاسم كاتبنا الكبير وذلك بمجرد حصوله على «نوبل».. وهكذا اتّجه الوجدان الشعبى إلى الأبنودى ووجدوا أن العسل الأسود هو الذى يليق به.
الأبنودى شاعر «السيرة الهلالية» و«عدوية» و«وهيبة» و«موال النهار» و«ابنك يقولك يا بطل» طبطب علينا وواسانا بها بعد هزيمة 67، وهو يقول «عدّى النهار والمغربية جايّة تتخفى ورا ظهر الشجر وعشان نتوه فى السكة شالت من ليالينا القمر»، وأعاد لنا الأمل فى المقاومة بصوت محمد حمام «يا بيوت السويس يا بيوت مدينتى أستشهد تحتك وتعيشى انت»، وعندما يتّجه بمشاعره إلى شاطئ الحب تجد مع نجاة «وحتسافر وحتسيبنى هنا للشوق يدوّبنى أعد الثانية قبل اليوم وأحلم بيك وأنا صاحى وأحلم بيك فى عز النوم».. وبصوت عبد الحليم حافظ «رميت نفسك فى حضن سقاك الحضن حزن»، رغم أن أحضان المصريين لا تسقيه إلا كل الحب.
عندما بدأت شرارة ثورة يناير كان قلم الأبنودى حاضرًا، لم ينتظر أن تتحدّد بالضبط الكفة الرابحة، ولكنه أيّد الثوار والثورة، ولا تزال رباعياته على الصفحة الأخيرة فى جريدة «التحرير» تدفع العديد من القراء، لكى يبدؤوا يومهم بالصفحة الأخيرة.
الأبنودى حقّق شيئًا أكبر من مجرد كونه شاعرًا كبيرًا وهو أن الشعر الشعبى صار يُعرف باسمه، عدد من الشعراء الجدد سواء موهوبين أو موهومين كانوا صدى للأبنودى أخذوا الكثير من مفرداته وأسلوبه فى الأداء الشعرى ورددوه، كانوا يحاكون صوته الشعرى والأدائى وهو ما يتكرر مع المبدع الذى يحقّق نجاحًا استثنائيًّا ليصبح هو عنوانًا لنوع الإبداع الذى يمارسه، فهو لا يكتب شعرًا منسوبًا لاسمه بقدر ما يكتب ما يعتقد المقلدون أنه فقط الشعر كما ينبغى أن يكون.
الأبنودى اختار فى السنوات الأخيرة، لأسباب صحية، أن يعيش فى الإسماعيلية بعيدًا عن القاهرة بصخبها ومناخها الملوّث، ولكن القاهرة لم تبتعد عنه، كل الفضائيات تطارده تذهب إليه فى الإسماعيلية بالكاميرا أو تستمع إلى صوته وفى كل المناسبات فهو حاضر فى تفاصيلنا اليومية.
الأبنودى تحيطه دائمًا قلوب الناس البسطاء، وهكذا عصروا له مشاعرهم ووضعوها فى بلاص العسل الأسود، لم يحتفل هذا العام، بسبب ما تعيشه مصر، بيوبيله الماسى -75 عامًا على ميلاده- ولكننا نقول له «يا أبنودى يا عسل» تنتظر الملايين يوبيلك المئوى!!