فى يونيو 1996، وبعد عام من المقاومة المتواصلة، ظلت خلاله الجمعية العمومية لنقابة الصحفيين فى حالة انعقاد دائم، لمتابعة المفاوضات التى كانت تجرى مع الحكومة، بشأن القانون رقم 93 لسنة 1995، الذى كان يغلظ العقوبات فى كل جرائم الصحافة والنشر. ألغى القانون، واستقبل الرئيس السابق حسنى مبارك، وفداً من الصحفيين النقابيين، ذهب ليشكره وليطالب - بالمرَّة - بإلغاء الذيل الوحيد الذى بقى منه، وهو إعادة الحبس الاحتياطى فى تهمة إهانة رئيس الجمهورية، وكان مما قيل تبريراً لهذا الطلب، إن الحبس الاحتياطى فى هذه التهمة كان قد ألغى عام 1970، وإن التهمة ذاتها لم توجه لأحد سواء كان صحفياً أو غير صحفى ولم تطبق فى العهود الجمهورية السابقة، وإنه لا يليق أن تعود لتطبق فى عهده.
وللحظة بدا وكأن الرئيس ميال للاستجابة للطلب، ولكن ممثلى الحكومة اعترضوا عليه، فاكتفى الرئيس بأن أكد لنا أن أحداً لن يحبس فى جريمة صحفية فى عهده، سواء كان الحبس احتياطياً أو فعليا، وسواء كانت التهمة إهانة الرئيس أو كانت غيرها، وكان ردنا أننا مع ثقتنا بوعده، وتقديرنا لهذا الوعد، إلا أننا نريد حقوقاً مقننة، يضمنها ويصونها القانون، وليس حقوقا عرفية، تقوم على وعود يمكن أن ينفذها هو، ولا ينفذها غيره.
وبعد هذا التاريخ بعشر سنوات، وفى المرة الوحيدة التى سافرت فيها مع الوفد الصحفى المرافق للرئيس السابق إلى إسبانيا، فى عام 2006 لحضور الاحتفال بمرور 600 سنة على رحيل العلامة «ابن خلدون»، وأثناء الحوار الذى دار بيننا وبين الرئيس على الطائرة، استرعيت انتباهه إلى أن النيابة العامة وجهت تهمة إهانة رئيس الجمهورية للمتظاهرين الذين كانوا يحتجون على تقديم ثلاثة من كبار القضاة، وهم المستشارون «محمود مكى» و«هشام البسطويسى» و«محمود الخضيرى» إلى مجلس تأديب، وذكّرته بالوعد الذى قطعه على نفسه عام 1996. واستدعى الرئيس وزير الإعلام الأسبق أنس الفقى «ليستفهم منه عن الأمر»، وسألنى الوزير عن مصدر معلوماتى، فقلت له إن الصحف كلها نشرت الخبر.. وقال الرئيس فى عبارة مقتضبة «بلاش الحكاية دى».
بعد عامين آخرين، وفى عام 2008 نشرت الصحف خبراً عن إصدار إحدى محاكم الجنح بالصعيد، حكما بالحبس لمدة عامين على أحد المواطنين بتهمة إهانة الرئيس، وكان المواطن- وهو موظف بالإدارة التعليمية بإحدى مدن الصعيد - قد ضاق ذرعاً باضطهاد رؤسائه له، فكتب قصيدة يهجوهم فيها، اعتبرها فرع مباحث أمن الدولة بالمدينة، إهانة للرئيس، فقدم بلاغاً للنيابة المحلية، التى أحالت الأمر للمحكمة فأصدرت هذا الحكم.. وأيامها علقت على الخبر فى هذا المكان، وذكرت الرئيس بوعده، فقلت إن لدىّ معلومات بأن هناك تعليمات أصدرها النائب العام لوكلائه منذ سنوات طويلة، بعدم التحقيق فى بلاغات القذف والسب التى يتقدم بها آحاد الناس، لكثرتها وشيوعها، تخفيفاً لعبء العمل على النيابة العامة، وإن على المتضرر فى هذه الحالة أن يلجأ إلى الادعاء المباشر أمام القضاء مباشرة، وإن على وكلاء النائب العام، ألا يعودوا إليه قبل تحريك تهمة إهانة الرئيس، لإخطار الرئاسة قبل تحريكها، باعتبار أن الرئيس هو المجنى عليه، وهو صاحب الحق فى تحريكها أو تجاهلها.
وبعد ساعتين من نشر المقال اتصل بى هاتفياً النائب العام المستشار عبدالمجيد محمود، وقال لى إن د. زكريا عزمى، رئيس الديوان الجمهورى، اتصل به يستفسر عن سبب عدم إخطار الرئاسة بوقائع هذه القضية قبل تحريكها.. وعلى ضوء ذلك قرر النائب العام أن تفوض النيابة الأمر للمحكمة عند نظر الاستئناف وهو ما انتهى بصدور الحكم ببراءة المتهم.
وقبل أسابيع نشرت الصحف أن الإدارة القانونية برئاسة الجمهورية، تتابع ما ينشر بالصحف والفضائيات، وينطوى على ما تعتبره إهانة للرئيس، لتقدم بلاغات ضد من يرتكبها إلى النيابة العامة، فاعترضت فى هذا المكان على هذا الاتجاه، وذكرت الرئيس مرسى بأن أحداً من الرؤساء السابقين لم يحرك الدعوى العمومية فى هذه التهمة، التى لا يجوز أن تظل قائمة فى قانون العقوبات، لأنها استنساخ لمادة العيب فى الذات الملكية، التى كانت تستند إلى نص فى دستور 1923، بأن ذات الملك مصونة لا تمس، بحكم أنه بنص الدستور يملك ولا يحكم، ويمارس سلطته بواسطة وزرائه، وبالتالى لا يجوز نقده أو مساءلته، فى حين أن الرئيس فى كل دساتير العهد الجمهورى، بما فيها الدستور القائم - يملك ويحكم ويرأس السلطة التنفيذية، وبذلك يجوز بل تجب مساءلته ونقده، فهو موظف عام، تنطبق عليه المادة 302 من قانون العقوبات التى تجيز القذف فى حق الموظف العام إذا تعلق الأمر بأعمال وظيفته، وبشروط حددتها، وهى جريمة عقوبتها لو ثبتت الإدانة الغرامة المالية، فى حين أن عقوبة تهمة إهانة الرئيس هى الحبس لمدة عامين دون زيادة أو نقصان.
أما الذى يدعو للدهشة، وربما للضحك، فهو أن المستشار محمد فؤاد جاد الله أدلى أمس بتصريح يقول فيه إن الرئيس لم يكن يعلم أن الإدارة القانونية بالرئاسة قدمت سبعة بلاغات ضد سبعة من الصحفيين والإعلاميين تتهمهم فيها بإهانة الرئيس، وإنه بمجرد علمه بها هذا الأسبوع، أمر باتخاذ إجراءات التنازل عنها، وهو ما يشجعنا على أن نحيط فخامة الرئيس وسيادة المستشار علماً بأن هناك عشرات البلاغات قدمها أعضاء بجماعة الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة، ضد عشرات الصحفيين والإعلاميين توجه إليهم التهمة نفسها.. وأن نذكره بأن ثلاثة من أركان إدارته الحاليين والسابقين، هم المستشاران أحمد مكى ومحمود مكى والوزير السابق محمد محسوب، سبق أن أعلنوا أنهم سيتقدمون بمشروع قانون لإلغاء المادة الخاصة بإهانة الرئيس من قانون العقوبات لعله يتكرم بالتدخل لسحب هذه البلاغات وإلغاء هذه المادة، حتى لا يضطرنا لتذكيره بقول الشاعر: إن كنت لا تدرى فتلك مصيبة.. وإن كنت تدرى فالمصيبة أعظم!