الروائى الروسى فلاديمير نابوكوف صاحب رواية «لوليتا» طلب من زوجته وهو على فراش الموت أن لا تنشر روايته «لاورا» ولكن ابنه ديمترى قبل أربع سنوات نشرها بعد أكثر من 30 عاما على رحيل والده، وتكرر الأمر مع الأديب البرتغالى خوسيه ساراماجو الذى طلب عدم نشر روايته المفقودة «كلارابويا»، ولكن زوجته قبل عامين لم تلق بالا لتلك الوصية أمام إغراء النشر وما يدره على الورثة من أرباح.
الحقيقة أن هذا الأمر يتكرر كثيرا ويعتبره البعض نوعا من الاكتشاف الفنى رغم ما يحيطه عادة من شبهة الاستغلال المادى، كثيرا ما تعرض عبد الحليم حافظ الذى احتفلنا بذكراه السادسة والثلاثين قبل عشرة أيام لمواقف مشابهة عندما كانت تُطرح له فى الأسواق أغنيات خاصة قدمها فى عدد من المناسبات، ولم يكن يسعى إلى نشرها فى حياته، ولكن الورثة وعددا من أصدقائه كانوا فى كل ذكرى يسمحون بنشر واحدة منها.
مثلا أعلن أبناء الموسيقار الراحل محمد الموجى عن أنهم وجدوا ألحانا نادرة له سوف يقدمونها إلى الجمهور فى ذكرى رحيله الثامنة عشر التى تحل فى شهر يونيو، وتكرر ذلك مع العديد من الكُتاب والشعراء، حيث إن الناس عادة ما تبحث عن الجديد الذى لم يقدمه المبدع فى حياته، معتقدين أن هذا العمل الفنى النادر ينطوى على سر ما يكتشفون من خلاله الكثير عن المبدع.
ولكن يبقى السؤال الشائك بعد الرحيل من يملك قرار نشر العمل الفنى والذى عادة لم تكتمل لمساته الأخيرة.. هل الورثة أم الأصدقاء؟ إنهما طرفان يتصارعان كل منهما يدعى أحقيته بالقرار النهائى!!
أثيرت هذه القضية قبل بضع سنوات مع آخر ديوان للشاعر الفلسطينى الكبير محمود درويش الذى صدر باسم «لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهى».. اكتشفوا أخطاء فى علم العروض -التفعيلات- أيضا هناك أخطاء لغوية، وبالطبع درويش أحد أهم علامات الشعر فى عالمنا العربى ولا يمكن أن يخطئ أبدا فى هذه البديهيات!!
الفنان عادة يكتب عمله الفنى أولا بتلقائية وهو يسارع بأن يلاحق ومضاته قد يخطئ فى وزن وقافية أو تتابع وتأتى بعد ذلك النظرة الثانية المتفحصة والتى يطلقون عليها النظرة الباردة.. فى أثناء الإلهام يعيش الفنان لحظة ساخنة يريد أن يُمسك بالمعانى والكلمات قبل أن تفلت منه وبعد أن يوثقها على الورق، فإن عليه أن يبتعد عنها حتى تهدأ مشاعره ويبرد انفعاله ليتأمل بحياد ما انتهى إليه.
ولا يختلف الأمر لو أننا بصدد فنان تشكيلى أو مخرج سينمائى.. ليس بالضرورة أن آخر ما يكتبه الفنان هو أفضل ما لديه، بل إن الزمن بقدر ما يضيف للفنان من خبرة، فإنه على الجانب الآخر قد يخصم منه بكارة وطزاجة الإبداع، ونجد أنفسنا بصدد اختيارين، الأول يرى أنه من الناحية الأدبية لا يجوز أن نقدم إلى الناس عملا فنيا قبل تنقيحه من خلال مبدعه الأصلى. الثانى يؤكد أن من حق الناس أن تستمتع بآخر ومضات المبدع.
أتذكر مثلا أن المخرج عاطف الطيب غادر حياتنا قبل أن ينتهى من مونتاج فيلمه «جبر الخواطر» وكان هذا هو أضعف أفلامه، لأنه لم يضف إليه النظرة الأخيرة فى المونتاج، أيقونة السينما العربية شادى عبد السلام صاحب الفيلم الرائع «المومياء» عثروا قبل أشهر قليلة على فيلمين تسجيليين لم يكملهما وعرضا فى مهرجان «الإسماعيلية» بإشراف واحد من أخلص تلاميذه مجدى عبد الرحمن، ولكننا افتقدنا فى الفيلمين سحر شادى. مثلا محمد عبد الوهاب لم يكمل لحن قصيدة «فى عينيك عنوانى» التى كتبها فاروق جويدة وأكملها الموجى، محاولا أن يستحضر روح عبد الوهاب وغنتها سمية القيصر فكانت لحنا وهابيا زائفا أقصد «تايوانيا».. وحاول بليغ حمدى فى منتصف السبعينيات أن يستكمل لحن تركه فريد الأطرش «كلمة عتاب» غناء وردة، تقمص بليغ روح فريد وقدم مزجا من أشهر مقدماته الموسيقية الغنائية فلم نسمع لا فريد ولا بليغ وكانت الأغنية «سمك لبن تمر هندى».. عندما أراجع كل ما حدث شعريا وموسيقيا وسينمائيا أجدنى أميل إلى الرأى القائل بأن الإبداع الناقص يظل مكانه المراكز الفنية المتخصصة ولا يقدم إلى الجمهور.. لا يعرض على الناس إلا فقط ما انتهى إليه الفنان فى حياته وأضاف إليه لمسته الأخيرة.. لا أحد من حقه أن يضع تلك اللمسة سوى المبدع نفسه!!