لو تأملنا ما جرى فى المرحلة التى تلت الخامس والعشرين من يناير.. لاكتشفنا أنه لم يقدم شخص لجماعة الإخوان طوال تاريخها مثلما قدم لها المشير حسين طنطاوى، وما كان لهذه الجماعة أن تصل إلى حكم مصر إلا على يد هذا الرجل، الذى أعطى ما لا يملك لمن لا يستحق، وعلى هذا لا أقبل ولا أصدق الرواية التى تضع طنطاوى فى صورة المغضوب عليه أو من خدعه رجاله. ما يقال عن أن محمد مرسى غرر بالمشير وانقلب عليه بعد تسريب معلومات عن انقلاب وشيك على الرئيس المستجد، أمر يصعب تصديقه وتبريرات وهمية لقرار متفق عليه..
كنت مؤمنا بأن إبعاد المشير والفريق ضرورة حتمية لصالح الجيش الذى تعرض لنكسات شديدة، وإهانات لم تحدث حتى بعد نكسة ١٩٦٧، ويكفى كسر الجيش بقتل جنودنا على الحدود. كان ينبغى أن يتقاعد المشير ورئيسه السابق قبل سنوات، وقبل أن تشيخ مقاعدهما وتترهل سلطاتهما. تعجبت قبلا أمام قرار إقالة الفريق والمشير، وبعد وقت أدركت أنهما أنهيا مهمتهما على خير ما يرام، ولم يعد لديهما ما يقدمانه للجماعة وكتر الله خيرهما. هكذا الجماعة.
المرشد كان أول من منحنى خيطا مهما حين قال بعد إقالة طنطاوى وعنان: إن الحديث عن محاكمة المشير والفريق قلة أدب. هذا يتنافى مع تاريخ الجماعة التى تقطع اليد التى تمتد إليها إذا ما انتهى دورها. زد على ذلك تكرار الإشادة بدور المجلس العسكرى من كل قيادات الجماعة، فضلا عن الإشادة البليغة من رئيس الجمهورية فى خطابه المطول بعيد السادس من أكتوبر. يبدو أننا هنا أمام دور تاريخى ثمين وصفقة مثيرة، فإذا ما قورنت كل أعمال المرشدين العظام للجماعة، فإنها لا تذكر أمام ما قدمه المشير الذى أعطاهم الجمل بما حمل وملكهم رقبة الوطن فداء لرقبته. إذا ما نظرنا بتمعن للمرحلة الانتقالية سنكتشف أن كل شىء كان يصب فى مصلحة الجماعة وحدها..
انظروا مثلا إلى اقتحام مقار أمن الدولة من فوق دبابات الجيش وأمام أعين المدرعات ثم حل الجهاز لاحقا.. جهاز أمن الدولة كان يحتوى على وثائق وملفات مهمة عن طبيعة العلاقة بين الجماعة والدولة التى من عباءتها خرجت كل الجماعات المتطرفة. ضاعت فرصة ذهبية لنعرف طبيعة هذه الجماعات التى عملت فى الخفاء، وارتبطت منذ نشأتها بأنظمة وأجهزة مخابرات. ضاعت أسرار تركها النظام السابق تكبر وتترعرع حتى قويت شوكتها وباتت فى كل حلق. ثم تابعوا كيف جاء حكم حل الحزب الوطنى بلا طعن أو استئناف، مع أن الثورة جاءت لترسخ قيم الديمقراطية ودولة القانون.
كان يمكن محاكمة الفاسدين من قيادات الحزب، أو تقديم جميع قياداته للمحاكم وهى التى تدينهم أو تبرئهم.. إلغاء وجود حزب أمر ينطوى على هدف، خصوصا إذا كان هذا الحزب بلا أيديولوجيا أو عقيدة سياسية مثل النازى أو الفاشى أو البعثى. هذه الأحزاب لها عمق فكرى متغلغل فى نفوس المنتمين لها، وبالتالى فإن وجودها يعرقل التحول الديمقراطى. حل «الوطنى» جعل الجماعة وحدها على الساحة السياسية. فى حين بات ممولو الوطنى فى حضن الجماعة، بل تحول بعضهم من ممول لـ«الوطنى» إلى ممول لـ«الحرية والعدالة» وداعم له فى كل الانتخابات. هكذا رأس المال يبحث دوما عن طوق نجاة، خصوصا فى البلدان التى لا تحترم القانون.
جاء الاستفتاء على التعديلات الدستورية، فدخل المجلس العسكرى منطقة الحلال والحرام، وكان القائد والمخطط لغزوة الصناديق. ممدوح شاهين «صهر الجماعة فيما بعد» كان يعبر عن ذلك بحضوره الطاغى وتأييده الحاد لـ«نعم المؤمنة» رافضا بشكل مطلق «لا الكافرة». وقفت القوى الوطنية فى وجه التعديلات الدستورية «تعديلات البشرى- صالح» لأنها تقودنا إلى دولة سرقة الوطن. كان العارفون يقولون: «الدستور أولا»، وكان الطامحون إلى السلطة «على جثة الوطن» يقولون الانتخابات أولا، فبقينا فى النفق الدائرى لا نعرف مخرجا.
جاءت الانتخابات البرلمانية بقانون معيب أصرت عليه الجماعة. وقت الانتخابات كانت مظاهرات الجماعة ضد وهم اسمه «وثيقة السلمى» وخلفها ذهب السذج، ثم تركتهم فانفتحت بؤرة «محمد محمود» لتخطف عيون الشعب بينما ذهبت الجماعة لتجنى وحدها حصاد الانتخابات. تركت المتظاهرين يرشقون وزارة الداخلية بالحجارة، وتدفق من جديد نهر الدم لكن الجماعة كانت هناك تخطف مقاعد البرلمان ومعها كان الجيش مشغولا برص الحجارة لحماية وزارة الداخلية، واقفا على الحياد الغريب.
وطوال المرحلة الانتقالية كنا نسأل: لماذا يعادى المشير شخصيات وطنية ويبعدها عن المشهد؟ لم نفهم أن هؤلاء أعداء للجماعة أو هكذا تراهم الجماعة مثل الدكتور محمد البرادعى وعمرو موسى وحمدين صباحى. كل هذا كان يقودنا إلى قمة الدرما: «الانتخابات الرئاسية». أعلن منصور حسن ترشحه فرحب الكثير من القوى، ثم انسحب الرجل فجأة، وكانت المفاجأة الكبرى ترشح عمر سليمان لكن سرعان ما خرج بحجة ساذجة، ومعه الشاطر المرفوض قانونا وأبوإسماعيل الذى أخفى جنسية والدته، بقى أحمد شفيق بعد قبول طعنه ليقضى على حظوظ المرشح الأفضل والأنسب لهذه المرحلة عمرو موسى.
هكذا كانت تتوالى المشاهد لنصل لمشهد إلغاء الإعلان الدستورى المكمل بجرة قلم، وركن المشير والفريق فى بيوتهما. ستظل هذه المرحلة مليئة بالألغاز ولكنها ألغاز ليست صعبة. العلاقة بين مبارك ووزير دفاعه يمكن أن تقودنا لفك كل هذه الألغاز، ولهذا مقال آخر.