لم يحدث أن وصل حجم التدهور الدينى والسياسى فى مصر إلى تلك الدرجة التى نشاهدها الآن، فقد اجتهد كثيرون من أجل إخراج أسوأ ما فى المجتمع من جهل وفجر فى الخصومة، وإقالة للعقل، حتى صارت الشائعات والكلام «الأهبل» هما لغة الكثيرين فى مصر الآن، وصار الانتقام وتصفية الحسابات خارج أى إطار قانونى وأخلاقى هما السمة التى تحكم أداء معظم السياسيين.
أما إخوان الحكم فقد تركوا كل هذه الأمور يدفع ثمنها الشعب طالما لا تهدد الكرسى ومشروع التمكين، واهتموا بالمطالبة بمحاكمة البرادعى، تماماً مثلما فعل رجال مبارك بحق الرجل، وبحق الإخوان أيضا، فى مفارقة صادمة للتحول النفسى والسياسى الذى أصاب الكثيرين من قادة الإخوان بعد وصولهم للسلطة. المشهد الحالى صادم، ليس فقط بسبب أداء الإخوان، إنما أيضا بسبب وضع المجتمع والقوى السياسية، حتى أصبح يسير بثبات نحو الدولة الفاشلة، التى لا يحكمها أى عقل ولا منطق، وتترك نفسها للغرائز البدائية والبلطجة السياسية والدينية.
موضوع العلاقة مع إيران والشيعة نموذج للحالة التى وصلت إليها مصر من انهيار ثقافى وعجز كامل، أن تدير علاقاتها مع العالم الخارجى حتى صرنا أضحوكة أمام كثير من دول العالم. السؤال الأول: هل هناك مشكلة أن تكون لمصر علاقة مع دولة شيعية أو بوذية أو مسيحية أو ملحدة؟.. الإجابة التلقائية من الجميع: لا توجد مشكلة، فنحن لدينا علاقات بكل دول العالم تقريباً، بما فيها إسرائيل المحتلة للأرض العربية، أما السؤال الثانى فهو: لماذا تظاهر بعض السلفيين ضد السفير الإيرانى وسبوا الرجل والشيعة، وكتبوا «شتائم عار» طائفية على سور منزله؟ والإجابة: لأنهم خائفون من التشيع، ويعتبرون إيران لديها خطة لكى تصبح مصر شيعية، وفق نظرية المؤامرة التى «عششت» فى أذهان كثير من الفشلة فى عالمنا العربى، وبقية الإجابة على هذا السؤال بسؤال آخر: لماذا لم تتشيع حركة حماس ومعها قطاع غزة الفقير والمحاصر «عدد سكانه أقل من حى شبرا فى القاهرة»، رغم تحالف حماس السابق مع إيران، ودعم الأخيرة للقطاع بالمال والعتاد وليس السياح؟ والإجابة أن إيران لم تتحرك كدولة شيعية، إنما دافعت بمهارة عن مصالح الأمة الإيرانية وطموحاتها الإقليمية، فوظفت الورقة الشيعية سياسياً، حيث يوجد الشيعة، وورقة المقاومة والسياسة، حيث يوجد السنة، ففى العراق، حيث يشكل الشيعة 55% من عدد سكانه، تحالفت إيران مع كثير من الأحزاب الشيعية، واستغلت الفشل الأمريكى والعربى فى العراق لتصبح البلد الأكثر تأثيرا فى المعادلة الداخلية العراقية، بعد أن قامت أمريكا بغزوه وسقط مئات الآلاف من الضحايا، لتقدم البلد بعد ذلك هدية لإيران، مما يذكرنا بأداء المجلس العسكرى فى مصر الذى تخلى عن مبارك ليسلم البلد بلا دستور للإخوان. وفى لبنان يشكل الشيعة أكبر طائفة من ناحية العدد (حوالى 30%)، مقارنة بباقى الطوائف، فتحالفت إيران مع حزب الله الذى تحول من حزب مقاوم إلى حارس للمصالح الإيرانية فى المنطقة، فى حين تحركت إيران مع حركة حماس وتنظيمات الممانعة على محور آخر، هو المقاومة ومواجهة الصهيونية، وهى كلها أوراق تخدم الطموح النووى الإيرانى ودورها الإقليمى، وتصعب على أمريكا وإسرائيل مهاجمتها. المؤكد أن هناك أطرافا عربية كثيرة تكره إيران وبعض هذه الكراهية لأسباب مذهبية، لكن لا يوجد بلد خاف من بضعة سياح إيرانيين مثل مصر، واعتبر أن إيران تحقق طموحها الإقليمى عبر هذه الطريقة البلهاء، أى عن طريق إرسال سياح هدفهم الوحيد دعوة 85 مليون مصرى للمذهب الشيعى. إن درجة «الهطل» التى تعامل بها بعضنا مع إيران ودفعته إلى الخوف من سياح إيرانيين، ودفعت بعض الحمقى لأن يضعوا هذه البذاءات على جدران منزل السفير الإيرانى، تدل على حجم التدهور الذى وصل إليه مستوى تفكير البعض فى أرض الكنانة، فحماس وغزة المحاصرة اختلفت مع إيران وابتعدت عنها بعد موقفها السلبى من الثورة السورية، وليس بسبب الخوف من التشيع، والمغرب أغلق سفارة إيران فى فترة من الفترات، لأنها تدخلت فى شؤونه الداخلية، أما مصر فمخجل أن نقول إننا خفنا من بضعة سياح على أمننا القومى، وعلى هويتنا الدينية والمذهبية.. فأى ضعف ووهن وصلنا إليه؟! لقد أتيحت لى فرصة زيارة إيران مرة واحدة منذ حوالى 10 سنوات، بمبادرة من مؤسسة «فريدريش إيبرت» الألمانية، فى رحلة ضمت بعض أساتذة الجامعات ومثقفين وممثلين عن بعض منظمات المجتمع المدنى، وكان من بينهم وزير الإسكان الحالى، د. طارق وفيق، وذلك للتحاور مع نظراء لهم فى إيران، وقضينا ٨ أيام بين طهران وأصفهان (واحدة من أجمل مدن العالم)، فزرت «طهران الشمالية» بأحيائها الراقية و«طهران الجنوبية» بأحيائها الشعبية، ورأيت كرم الإيرانيين وحفاوتهم البالغة وحبهم لمصر، خاصة أن من كان فى الحكم فى ذلك الوقت هو الرئيس الإصلاحى محمد خاتمى.
ودعانى إعلامى إيرانى شاب إلى عشاء فى منزله وعرفنى بزوجته وأطفاله بحفاوة وكرم بالغين، وكان يعمل فى إذاعة إيرانية ناطقة بالفرنسية، واعتاد أن يتصل بى وقتها لكى أعلق على بعض الأحداث السياسية، وأخذنى بسيارته لجولة فى أحياء طهران المختلفة، ووجدت بها فقراً نسبياً أقل بكثير من مصر، والشعب مثقف وحى، والمرأة ساحرة وفاعلة، وشاركت بحيوية مذهلة فى كل المناقشات واللقاءات التى حضرتها دون ادعاء أو تصنع.
مازلت أذكر أنى كنت أقول وقتها إن لديهم أوهاماً عنا لأنهم لم يزورونا، ولا توجد علاقات معهم، لأنهم كانوا يتحدثون عن مصر كأنها واحة التسامح والسلام وبلد الحضارة والتاريخ، وكان حلم معظم من قابلتهم أن يزوروا مصر، وتطوع بعضهم وأخبرنى برفضه الاحتفاظ باسم ميدان خالد الإسلامبولى، الذى اغتال الرئيس السادات، فى إيران، وأبدى البعض الآخر تعاطفاً مع الاعتدال المزيف فى مصر مبارك فى ذلك الوقت، فحيث يوجد خطاب المقاومة يكون الحنين للاعتدال والعكس صحيح.
من حقنا أن نختلف مع سياسة إيران الخارجية وموقفها السيئ من الثورة السورية، كما يجب أيضا أن يعرف الناس أن شعارات إيران «المقاومة» ضد إسرائيل، وليست كما تقول من أجل تحرير القدس وفلسطين، إنما هى أوراق ضغط تحتفظ بها من أجل استكمال مشروعها النووى وتنفيذ طموحاتها الإقليمية.
لم يناقش أحد خبرة إيران الدولة ولا الثورة، ولم يحاول أحد أن يفهم طبيعة هذا النموذج السياسى الحيوى، وهذا الشعب المبدع وهذه الحضارة العريقة، فمن حق البعض أن يختلف مع كل أو جزء من سياسة إيران، لكن هذا الخطاب الطائفى الساذج الذى يختزل تعقيدات العلاقات بين الدول فى مذهبهم الدينى أمر لا يمكن أن نسمعه إلا فى الصومال، أو داخل تنظيم القاعدة، وأضيف إليها مؤخرا بكل أسف «إنك أكيد فى مصر».
المؤكد أن خبرة مصر السياسية تختلف عن إيران تماما، مثلما أن تركيا «السنية» تختلف عن إيران، ليس فقط فى توجهاتها السياسية، إنما أيضا فى خبرتها ونموذجها السياسى، الذى هو تقريبا نقيض النموذج الإيرانى، ومع ذلك ظلت هناك علاقات دبلوماسية طيبة بين البلدين، وتبادل تجارى وحوار سياسى لا ينقطع، والفارق بين تركيا ومصر أن الأولى دولة لم يستقل منها العقل ويحكمها نظام ديمقراطى يتسم بالكفاءة الاقتصادية والسياسية، فى حين أن مصر تسير بخطوات ثابتة نحو بناء دولة فاشلة أقيل منها العقل. أفهم أن نختلف مع توجهات إيران أو حتى نقاطعها بسبب سياساتها وليس بسبب سائحيها، وهذا هو الفارق بين دولة تمتلك علماء قادرين على تصنيع قنبلة نووية، فقدمت أمس الأول وروداً للسفير المصرى الحالى فى طهران، ودولة أخرى تمتلك «علماء» قادرين على صناعة الكراهية فى كل مكان من المسيحيين حتى المسلمين الشيعة.