كان بجواري في المدرسة ذلك الزميل المولع برسم الصليب المعقوف النازي على الدكّة الخشبية وعلى غلاف كراسته وعلى الجدران وفي أوقات متطرفة، كان يفعل ذلك على قفا الزميل الذي يجلس أمامنا.
لم يكن ذلك زميلا بعينه، ولكن كان هناك دائما ذلك الزميل، مهما تنقلت بين الفصول والمدارس والمراحل الدراسية. وعندما سألت آخرين أجابوني بأنهم كانوا يجدون دائما ذلك الزميل المولع بالصليب المعقوف النازي.
بدأ وجود ذلك الزميل يتقلص مع التقدم في العمر ودخول المرحلة الجامعية، ولكن يحل محله أحيانا الاهتمام الكبير بسيرة حياة هتلر وكتابه «كفاحي». ويبدو لي أنه ليس خاليا من الدلالة وجود ذلك الكتاب دائما على الأرصفة كأحد أكثر الكتب شعبية ومبيعا. وإذا كانت المرحلة العمرية تقلل من احتمال أن تجد زميلا مهتما برسم الصليب المعقوف النازي في كل مكان فإنك لن تعدم هؤلاء الذين يكنون احتراما ما لهتلر ورغبته في نهضة قومية للألمان تقوم على نقائهم العنصري، كما أن هناك احتراما خاصا بعدائه لليهود واضطهاده لهم في إطار احتقاره لأشكال مختلفة من المختلفين: الشيوعيين والسلافيين والمثليين جنسيا والغجر والمعاقين.
كانت تلك التعبيرات عندي لا تفسر إلا في إطار رغبة الزميل الصبي في المراحل المتقدمة من العمر من إظهار قدر تمرده وبلطجته واعتزازه بهويته واحتقاره للآخرين وهويتهم، وأن فتوته وقوته تجعلانه أميل لتأييد أفكار تنادي بكل صراحة بإبادة الأعداء وقهر المختلفين.
ومع التقدم في العمر تبدأ بعض ملامح الاعتزاز بالهوية واحتقار هوية الآخرين والرغبة في البلطجة عليهم تمتزج بعوامل فكرية دينية ووطنية وقومية سائدة ومنتشرة بيننا كالماء والهواء.
ويبدو إعلان احترام هتلر كتعبير عن معاداة الميل الغالب في عصرنا للتفكير في السياسة من منطلق مفاهيم مثل الديمقراطية والحريات والحقوق الإنسان. وبتأييد هتلر يقف ذلك الزميل على أرضية متمردة – من وجهة نظره – على هذه الأفكار، ويعلن أن هذا العالم لا مكان فيه للمبادئ المثالية، وأنه يتعين على الإنسان أن يصير وحشا لكي يكون محترما بين الوحوش. وأنه في سبيل نهضة «ديننا» أو «وطننا» أو «قوميتنا» يجب علينا أن ندوس على «قلبنا» وعلى الأفكار المخنثة لاحترام المختلفين والضعفاء وأن نسعى للوحدة التي هي قرين القوة، وعلى الأضعف والأقل أن يخضع للأقوى والأكثر، وهذه هي سنة الحياة.
الصليب المعقوف تاريخيا لا علاقة له بالمسيحية، وعمره يمتد لقرابة 3000 عام قبل ميلاد المسيح، وهو رمز منتشر في الثقافات الهندوسية والبوذية وغيرها. ويرمز في الأغلب إلى «الحظ السعيد» أو «الخير». وهناك تطورات في استخدامه في أوروبا في القرن العشرين ربطته بالاعتزاز بالعرق الآري، وكان ذلك فيما يبدو السبب في اتخاذه كشعار للحزب النازي في ألمانيا كدلالة على الكبرياء القومية القائم على العرق الآري الذي ينحدر منه معظم الشعب الألماني ويجعله خير عرق أخرج للناس.
الكبرياء القومية المستندة لهوية عادة ما تجد نفسها أمام مشكلة عدم النقاء، ومشكلة وجود أناس مختلفين. الهوية الصافية خرافة غالبا والواقع قاس ومليء بالانحراف والتشتت. ولذلك فإنه على ما يبدو فإن أي دفاع عن كبرياء قومية يقترن أو ينجرف لشكل من أشكال البلطجة القومية الداخلية على هذه العناصر التي تهدد النقاء والتجانس وبالتالي تهدد الوحدة والقوة، وهو ما يهدد بدوره مشروع البلطجة القومية الخارجية، أي مشروعات التوسع وبناء الإمبراطوريات لخدمة العرق الجيد صاحب الهوية الأفضل التي تعلو على باقي الهويات.
تلك العناصر التي تمثل اختلافا عن «هوية عامة» مفترضة هي مصدر قوتنا وعزتنا «المفترضة أيضا»، ويمكن ربطها دائما بـ«الخارج» ومخططاته من أجل التفكيك والتقسيم.
ومن أجل ألا ييدو العرق الخيّر معتديا فإنه يمكن الاستناد إلى روايات أو أحداث أو شخصيات تدعم هذا الربط أو هذا الافتراض أو اعتبار بعض آرائهم وأفكارهم خيانة أو عداء للهوية التي يجب أن تكون عليها الجماعة، لولا وجود هؤلاء المختلفين للأسف الشديد.
لا أدري تحديدا علاقة صالح ومصطفى وحمّو وبكار والشبح وبصلة وزتونة بكل ما سبق من الأفكار وهم يرسمون صليبا معقوفا بجانب أسمائهم على جدار معهد أزهري في قرية الخصوص. ربما كان التلاقح الثقافي المستمر مع الهندوسية أو البوذية يجعل الصليب المعقوف ما زال مجرد علامة بريئة للحظ السعيد والخير، وربما كانت روح البلطجة الصبيانية لأولاد المدارس أو ربما كانوا مجموعة من «النازيين الجدد».
ولكن الأهم بالنسبة لي هو التساؤل إن كان ذلك يعد دليلا أكيدا على استمرار وجود «الزميل النازي» بين طلبة المدارس مع استمرار نفس الأفكار المتناثرة في ثقافتنا الدينية والوطنية والقومية التي تشجع مثل هذا النوع من الأفكار الجميلة، أم أن سوء التفاهم البسيط، الذي وقع هناك وجعل الكثيرين يرددون وما زالوا يرددون أن ذلك الصليب كان إهانة للإسلام يعني أن الصليب المعقوف أصبح شكله غريبا بين العديد من المصريين، بينما هم أنفسهم تتلبسهم روحه السمحة وطموحه النبيل المندفع إلى الغاية دون تأخير إلى درجة نسيان أن من رسم الصليب لإهانة الإسلام إما ولد اسمه صالح أو ولد آخر اسمه أحمد وبيدلعوه يقولوا له يا حمّو.