هل هناك أجمل من الدندنة مع أغنية من الأيام الخوالى يذيعها الراديو صباحًا تخفّف عنك عناء الوقوف لساعات طويلة فى محاولات يائسة للوصول إلى العمل؟ بالقطع لا.. وجميعنا يشعر أن اليوم يبدأ بداية متفائلة إذا صاحب ذلك موسيقى جميلة وغناء يطرب الأذن ويغسل الروح ويرفع المعنويات ويفصلك عن متاعب الحياة اليومية ولو لدقائق، وتستوى فى ذلك الأغنيات العاطفية مع الأغنيات الوطنية، فجميعها يستدعى إلى الذاكرة بدرجة أو بأخرى لحظات انتصار أو انكسار، شجن أو سعادة، ناهيك بشبكة متداخلة ومعقّدة من الذكريات تختلط فيها أحداث الطفولة والشباب وتتنوع فيها اللحظات الفارقة بين أيام الحماس الثورى والارتباط العاطفى أيام ترتبط ذكرياتها بأم كلثوم وعبد الحليم حافظ والأجيال المتعاقبة من عباقرة الغناء والكلمات والألحان التى تربينا عليها فى جيلنا والأجيال السابقة واللاحقة، حيث فى نظر الكثيرين، وأنا منهم، أن «المغنى» هو مثلما قالت أم كلثوم «حياة الروح يسمعها العليل تشفيه»، الله يرحمك يا ست!
صحيح أن هذه الأيام لم نعد نسمع أغانى جديدة تعلّق بالأذهان مثلما اعتادت آذاننا، ولكننا ما زلنا ندندن بسعادة أو شجن حسب الأحوال مع ما يصادفنا خلال اليوم من أغنيات، خصوصًا الوطنية منها فى هذه الأيام الصعبة والثقيلة على القلوب، وبالتالى فالأغانى الوطنية يذهب تأثيرها إلى القلب مباشرة، متأثرة بحالة «النوستالجيا» التى نواجهها جميعًا فى قضايا ومواقف مختلفة، فنتذكّر أيام الزهو القومى أو السد العالى أو حرب أكتوبر، التى تم صياغة ذكرياتها بكلمات مبدعة وألحان رائعة وأصوات عبقرية عشنا عليها زمنًا رغدًا ، والدنيا مشيت على هذا المنوال نصّبر أنفسنا أحيانًا بالموسيقى والطرب، آملين أننا فى زمن قريب سنستعيد طاقتنا الفنية على الإبداع، وستظهر أغانٍ جديدة تعبر بنا إلى أزمنة سعيدة تتحقّق فيها الأحلام وتصبح الأغانى كما قال محمد منير «لسّه ممكنة»، ولكن إذ فجأة وعلى حين غرّة ونحن سادرون فى الطمأنينة بأن مخزوننا الروحى من الأغانى الوطنية محفوظ فى مكان حصين فى الذاكرة القومية الجمعية للشعب المصرى، وأن إحساسنا الجميل به ما زال موجودًا، ليبعث بالبهجة فى قلوبنا ويستنهض هممنا عندما تظهر الحاجة إلى ذلك، قرر باسم يوسف وفريقه أن يوقظوننا بقسوة شديدة لنرى كيف تطوّرت الأحوال وتغيّرت الظروف، وكيف أن اطمئناننا إلى الأحلام الوطنية يمكن أن يصبح فى لحظة فى خبر كان تذروه الرياح، فوسط الضحك الشديد فى حلقته الأخيرة وحالة التنفيس عن الإحباط والتوحّد مع المشاهدين فى الاعتراض على ما يحدث على الأقل بالسخرية مما نعانيه والأمل فى ما هو آت، فاجأنا باسم وصحبته بإعلانه عن تقديم أغنية «الوطن الأكبر»، وهى تاريخ لو تعلمون كبير استمعت إليها أجيال متعاقبة، أحسّت بالفخر الظاهر فى شدو كبار المغنيين المشاركين بها، وهم نجوم الطرب فى عالمنا العربى فى ستينيات القرن الماضى عن بلادهم المختلفة، متغنين بالوحدة العربية القادمة.
ولكن فى هذه اللحظة، وما أن انتهى مطلع الأغنية الذى أثار عاصفة من الضحك والمرح وبدأت الكوبليهات تتوالى، فإننى أزعم أن معظمنا قد تجمّعت فى مقلتيه الدموع دون سابق إنذار أو اتفاق، وتحوّل الشجن الجميل والحنين إلى تحقّق الأحلام إلى شعور بالحزن والمهانة، فهل هذه هى نهاية المطاف بالنسبة إلى مصر؟ مصر التى قادت عبر العصور منطقتها العربية بعناصر قوتها الناعمة من ثقافة وإبداع وأدب ومبادرات للإصلاح الثقافى والاجتماعى؟ مصر التى لم تبخل على أحد بالدعم والمساندة فى جميع المجالات والتى احتضنت الجميع دون استثناء على أرضها وتحت سمائها؟ هل انتهى الحال بمصر إلى هذا الموقف؟ ولكن ورغم هذه الدموع وهذا الشجن، فإننا ممتنون لباسم وفريقه، لأن جانبًا مشرقًا ظهر جليًّا فى العملية الجراحية التى قاموا بها للكشف عن أوجاعنا وما تعانيه قلوبنا الحزينة فهذه النسخة «القاسية» من الأغنية العزيزة، أكدت أن المصريين ما زالت أحلامهم الوطنية والقومية متوهجة تحت ركام المشكلات والظروف ومحاولات جرّنا للعودة إلى العصور الحجرية والتخلّى عن الهوية المصرية المتميزة، ما زلنا نهتم ونتأثّر ونتذكّر ويحز فى أنفسنا عدم تحقّق الآمال القومية، ما زلنا نحنّ إلى أيام الفخر والانتصار، فلم تتبلّد مشاعرنا بعد تجاه وطننا، وما زلنا نحلم بالأفضل له ولنا، وما زلنا نتوحّد فى المشاعر الطيبة وتنهمر دموعنا رغبة فى استعادة أمجادنا، وسنفعل بإذن الله، فمصرنا التى نحبّها ما زالت بخير ولا نامت أعين الجبناء!