أعلم أن لقب «الأولى» يثير تداعيات سلبية لديكم، فلقد كانت لدينا سيدة مصر الأولى سوزان مبارك تحيطها الآن قضايا فساد واستغلال نفوذ، وكانت لدينا نجمة مصر الأولى نبيلة عبيد، دار الزمن عليها فصارت فى السنوات الأخيرة تتشعبط فى قطار النجومية، ولكن سيدة الميكروفون الأولى استحقّت هذا اللقب بعد قمة استقرّت عليها فلم يمنحها اللقب رئيس كانت زوجة له، ولا دائرة مصالح من منتجى الأفلام السينمائية أرادوا استثمارها، لكن المستمعين الذين صعدوا بها للقمة على مدى ستة عقود متواصلة من الزمان، حيث توارث الأحفاد «جينات» عشق صوتها من أجدادهم!!
الإذاعية الكبيرة آمال فهمى، دخلت إلى موسوعة «جينس» للأرقام القياسية باعتبارها قد وصلت إلى رقم 50 عامًا وهى تُقدّم برنامجها الأشهر «على الناصية».
لا أتصوّر رغم أهمية الرصد الرقمى أننا بهذا المقياس نُقيّم الإبداع الفنى، الباب فى الموسوعة مفتوح دائمًا لأصحاب القدرات الخاصة، إلا أن قيمة ما أنجزته آمال فهمى أنها تملك القدرة على التجدّد وإيقاعها كمقدمة برامج هو إيقاع الزمن، لقد دخلت الإذاعة المصرية عام 51 بالصدفة، عندما التقت زميلًا فى الجامعة كان قد قرأ أن الإذاعة تطلب أصواتًا جديدة فتقدّم ومنحها استمارة ونجحت، بينما رسب هو.
آمال فهمى عاصرت جيلًا كان يطرق أبواب الإذاعة وكله آمال فى غدٍ قادم. كمال الطويل والذى بدأ مشواره موظفًا بقسم الموسيقى والغناء، وجلال معوض صاحب أروع صوت عرفته مصر، وعبد الحليم حافظ الذى كان ملازمًا لهذا الجيل من الإذاعيين الشباب. لم تكن آمال هى أول صوت نسائى حقّق نجومية فلقد سبقتها السيدة صفية المهندس، ولكن آمال اختارت أن تبحث عن الصعب وهكذا تألّقت فى البرامج الحوارية ولها تسجيلات نادرة مع عمالقة الأدب والفن والعلم فى مصر، تلمح فيها كيف أنها كانت دائمًا حاضرة الذهن قادرة على الاقتناص من إجابات ضيفها لتفجّر أسئلة ساخنة، وهى صاحبة فكرة الفوازير، التقطتها فى أثناء استماعها إلى صوت فى سيارتها لم تدرك ما هو، وذهبت إلى الميكانيكى واكتشفت أنه صوت محطة إذاعة غير مضبوطة الموجة، فقررت أن تحيل هذا الموقف إلى فزورة رمضانية. انتقلت بعد ذلك إلى المحطة الأهم، وهى أن يكتب بيرم التونسى الفوازير وبعد رحيله لجأت إلى صلاح جاهين الذى قال لها «هل أرتدى بدلة أبويا؟» ووافق بعد إلحاح، وعندما تأخّر صلاح جاهين فى رحلة بالسودان عن إرسال الحلقات وجّهت إليه نداء على الهواء مشوبًا بعتاب، وروى لها صلاح جاهين أنه فى مطارى الخرطوم والقاهرة وجد الموظفين والعمال يحثّونه على سرعة إرسال الفوازير إلى الست آمال.
فى عام 64، تولّت آمال فهمى رئاسة إذاعة الشرق الأوسط التى جاءت بعد محطتى إذاعة راسختين فى الوجدان المصرى، وهما «البرنامج العام» و«صوت العرب»، ومنحت آمال الإذاعة الوليدة نبضًا عصريًّا، البرنامج السريع واللمحة الطريفة والتعليق الساخن، وقدمت أصواتًا مثل سناء منصور وحكمت الشربينى وإيناس جوهر وعمو حسن ومحيى محمود ومحمد أنور وصديقة حياتى ودرية شرف الدين وغيرهم، صنعت نجومًا إذاعية ولم تشعر بالغيرة من نجاحهم، فهى الشمس المشرقة دومًا، وبين كل ذلك لم تتخلَّ أبدًا عن برنامجها «على الناصية».
البرنامج لمن لا يعرف يتم تسجيله بالفعل على الناصية حتى عندما كسرت قدمها ومنعت من الحركة تمامًا قبل بضع سنوات احتفظت بجهاز كاسيت وفى المستشفى كانت تسجل الحلقات فى الطرقات، وهى على كرسى متحرك، فهى لا تستطيع أن تتنفس بعيدًا عن الميكروفون.
آمال فهمى فى الخيال الشعبى هى التى ارتبطت لدى الناس بفيلم «حكاية حب» عندما قدمت عبد الحليم فى «على الناصية» باعتباره مطربًا جديدًا بأغنية «باحلم بيك»، البرنامج كان هو حلم أى موهبة فنية جديدة تريد الانطلاق، وهى بالمناسبة تبنّت صوت على الحجار فى نهاية السبعينيات فى «على الناصية» وقدّمته إلى الجمهور ودعّمته فى بداية المشوار، وهو ما كرّرته مع مها البدرى.
موسوعة «جينس» تظلم كثيرًا آمال فهمى، فهى بحساب العطاء تجاوزت القمة الرقمية إلى القيمة والقمة الإبداعية، إنها سيدة الميكروفون الأولى فى العالم قبل وبعد الموسوعة.