أقصد بالعشوائيات المناطق المخالفة التى بُنيت بلا تخطيط على أطراف أحياء الطبقة الوسطى الفقيرة. فلا تذهبى بتفكيرك بعيدا وتعتقدى أننى أتحدث عن عالم لا تعرفينه. فهو أقرب إليك جدا مما تظنين. وعالم العشوائيات -كحال كل الدول الفاشلة- رأس حربة المجتمع المصرى اجتماعيا، لسببين:
١- العلاقة بين أهل العشوائيات والدولة نشأت من البداية منشأ «منحلا». الميسورون من أهل العشوائيات تملكوا بوضع اليد، أو بالبناء المخالف والرشوة. والفقراء من أهل العشوائيات لم يروا من الدولة أيادى بيضاء، من أساسه. فلا كان الآباء مرتبطين بالدولة من أجل الوظيفة، ولا كانوا قادرين على تقديم النمط الذى تسوقه الدولة لعلاقة الكبار بالصغار. كيف؟ انتقلى إلى رقم 2.
٢- أسريا، بدأت العلاقة بين جيل الآباء وجيل الأبناء من نقطة لم تصلها الطبقة الوسطى إلا لاحقا. حين كانت الدولة تدعم وتتكفل بالطبقة الوسطى كالأطفال، كان آباء العشوائيات الفقراء مضطرين إلى تشغيل أبنائهم. هذا صبى فى ورشة، وهذه صبية فى معمل نسيج، أو فى بيت، وذلك فتى وتلك فتاة يتجولان على البيوت بمنتجات تنظيف. لقد فشلت قديما محاولة آباء العشوائيات لكى يكونوا انعكاسا لنمط الدولة/العائلة الذى يسوق فى التليفزيون الرسمى وفى الأغانى الوطنية وفى المدارس، الأب الراعى الكافى. وبالتالى، حين كان أبناء الطبقة الوسطى تابعين لآبائهم، كان أبناء العشوائيات سابقين بخطوة، أندادا مع آبائهم. وحين كان آباء الطبقة الوسطى مثالا لدعاية الدولة عن نفسها. كان آباء العشوائيات مثالا لـ«حقيقة الدولة». الدولة التى لم يعد لديها ما تقدمه. الدولة التى تقدم لا شىء وتطلب لا شىء.
٣- تحولت هذه العلاقة فى جيل واحد، ومع زيادة الاعتماد على الميكنة فى البيوت، ومع زيادة الاعتماد على الشركات الخاصة لتوفير الخدمات، إلى علاقة راجحة الكفة لصالح الأبناء تماما. بمعنى أن الأب الموجود فى البيت إما كبير السن، أو يفتقد إلى المهارات المطلوبة للعمل، أو أن فرص العمل المتوفرة لا تصلح لسنه (صبية الورش، عمال التوصيل إلى المنازل، إلخ) وبالتالى فإن أبناءه هم الذين ينفقون عليه. وكان هذا أيضا موازيا لحقيقة تطور علاقة الدولة بالشعب. الدولة التى تقدم لا شىء وتطلب أشياء. (من أول التوريث على كل المستويات والاستيلاء على الملك العام إلى الشرطة وأمنائها).
هذا الجيل من أبناء العشوائيات نشأ متحررا تماما تماما من نمط علاقة «احترام الكبير» الذى تسوقه الدولة/الآباء. متحررا منها بداية وليس متمردا عليها كما هو الحال عند أبناء الطبقة الوسطى. بمعنى أنه لا يعرفها من الأساس. ولا يستدعيها من عقله الباطن لو استخدمت معه شعاراتها.. بالعكس. لقد نشؤوا على فكرة -وهى ليست بعيدة عن الحقيقة- أنهم يتفضلون على الدولة/الأب. وعلى فكرة أخرى خطيرة: أن لهم عند هذين حقوقا لم يحصلوا عليها، ومن حقهم أن يحصلوا عليها بأى منطق. تحدثى إلى سائق تك تك، حاولى أن تنبهيه إلى احترام أى شىء، وشوفى هيقول لك إيه!!
تخيلى هؤلاء وهم يستمعون إلى خطابات بطانة الدولة القديمة عن احترام الكبير، والحفاظ على هيبة الدولة.. نكتة! أليس كذلك؟!
الخلاصة: لقد حدث فى مصر ما يحدث فى غيرها من الدول تحت الحكم المستبد. نجح هذا الحكم، بوسائله المقدور عليها، فى تدجين الطبقة الوسطى، ولم يكن لديه قدرة على تدجين العشوائيات. فتقدمت العشوائيات فى الخروج عن سيطرته خطوة، وتبعتها الطبقة الوسطى. ليس فقط فى الخروج عن السيطرة، ولكن فى النمط السلوكى أيضا. إن كنت فى مساكن الطبقة الوسطى الشائعة فاخرجى إلى البلكونة وانظرى حولك، إلى البناءات المخالفة، إلى الأرصفة، ثم انزلى إلى الشارع وانظرى أى نمط قيادة يسيطر عليه، وأى مركبات تفرض نمط قيادة سائقيها على الشارع كله. لا تخدعى نفسك. العشوائيات قائدة المرحلة. الإخوان والسلفيون، الأول بين صفوف الطبقة الوسطى والريف المستقر، والثانى بين صفوف أحزمة الفقر والعشوائيات، كان لهما دور كبير فى خلق صورة بديلة من «وطن عائلى» يعيد الأمور إلى نصابها، كل بطريقته. هذا الدور -صدقينى- ليس كما تظنين. وليس كما ظنت الثورة. ولا كما ظن السذج الذين تعاونوا معهم، وروجوا لهذا التعاون.. غدا.