هكذا سألت السيدة التي تسير على قدميها على أطراف الطريق وجلبابها الأسود الطويل يكنس الأرض من تحتها واسطوانة البوتاجاز فوق رأسها.. "أبو ممدوح" صاحب الجلباب البلدي والذي يرفع أسطوانته بيداه فوقه وهو في يجري والإبتسامة على وجهه وكأنما يحمل كأس العالم وليست إسطوانة بوتاجاز دفع عشرة جنيهات وحجزها قبل يومين "بالكوبون الأحمر" وينتظرها من بعد صلاة الفجر حتى السابعة صباحاً لحظة وصول العربة النقل الخضراء ويقف كي يزاحم الناس ويزاحمونه ويدوسون على قدميه كي يصل بأمان إلى العربة التي تحمل الإسطوانات ويضع يده عليها وكأنما يحاول لمس الكعبة في عمرة العشر أيام الأخيرة من شهر رمضان.
" الناس هناك ياما يا أم وليد .. معاكي بون ولا هتسلكي نفسك من العربجي ؟ "
الكوبون لونين .. أحمر وأصفر.. تحصل عليه من شباب الجماعة في القرية بغرض تنظيم عملية التوزيع بعشرة جنيهات وثمن الإسطوانة ثمانية جنيهات، يحصل هؤلاء الشباب على فرق السعر، البون الأحمر يجعلك تحصل على الأسطوانة بعد يومين والأصفر يجعلك تحصل عليه بعد أربعة أيام، وعندما تصل العربة توزع نصف الكمية على عربات الكارو الخاصة بالعربجية كي يمروا بها على البيوت ويكون سعر الإسطوانة خمسة عشر جنيهاً، والباقي يوزع على أصحاب البونات وفقاً للون المحدد لهذا اليوم.
" معايا بون واخداه من الواد الإخوانجي إبن الشيخ حسن بتاع الجامع .. هو أحنا هوانم ولا وارسين عشان نستنى العربية أم خمستاشر جنيه ! "
فور وصول أم وليد إلى الساحة الكبيرة التي عند مدخل القرية وجدت العربة واقفة وحمدت ربها أنها لم تتأخر وأسرعت خطواتها رغم الحمل الكبير الذي على رأسها حتى غابت في الزحام، لمدة لا تقل عن ساعة، وأخيراً خرجت وعلى الإسطوانة والغضب يتملك منها تماماً وعيناها تغرق في الدموع وكأن كبريائها يمنعها من البكاء أمام الناس وخطواتها ضعيفة لدرجه تصل إلى حد الوقوف.
" مليتي يا أم وليد ولا خلصوا الأنابيب ؟ "
هكذا سألتها سيدة عجوزة مسنة ومعها طفلة صغيرة جميلة عمرها لا يتجاوز العاشرة وترتدي فستان طويل يبدوا وكأنه لأختها الكبيرة وتدفع أمامها الإسطوانة بقدميها.. هنا إنهمرت أم وليد في البكاء الذي لم يتوقف وكأنما جاءها خبر موت وليد.
" مالك يا أم وليد .. مالك ياختي !؟! " هكذا سألت العجوز وهي تمسك يد أم وليد اليمنى وتمسح عليها بلطف وحنين.
" البون الي معايا أصفر .. والنهاردة بتاع الأحمر " هكذا أجابت وهي تمسح دموعها بالطرحتها السوداء وكأنما كان في قلبها هم كبير خرج مع الدموع.
" طب ياختي أدينا أعدين مع بعض، الحال من بعضه .. نرتاح شوية ونروح سوا " هكذا قالت السيدة العجوز التي علمها الزمن أن الضحك للهم يمنع الغم.
" يا بلد حرامية باولاد الكلب .. بدفع كل يوم متين جنيه بسببكم " .. هكذا كان صياح سائق العربة الذي وكما يبدوا قد سرقت منه أسطوانة غاز سيدفع ثمنها عندما يورد الفارغ للمخزن.
" روح خد حقها من مرسي .. ياك كسر حُقك "
هكذا قالت أم وليد .. ثم انهمروا جميعاً في الضحك حتى البكاء.