لقد بدأ الشك الدفين، المقموع، نحو الآباء/الدولة فى جيل أبناء الطبقة الوسطى الذى تشكل وعيه الطفولى فى السبعينيات. وهو مجرد شك لأن هذا الجيل من أبناء الطبقة الوسطى عاش على دعاية الدولة، وأغنية المصريين أهم، وبكرة أحلى من النهارده، بكرة يا جيلنا الجديد، تحصدوا خير ما زرعنا والجميع يسعد أكيد. لقد عاش الجيل على هذا الأمل فعلا. كما أنه رأى كفاح آبائه من أجل تحسين فرص مستقبلهم، كان فى استطاعة بعض الأسر إلحاق أبنائها بتعليم إرسالى خاص، وكان باستطاعة أسر أخرى أن تدعمهم بدروس خصوصية تغلُّبًا على تكدس الأعداد فى مدارس الحكومة. كان هناك تعليم ينهار لكن مُدرِّس المدرسة يقوم بعمله. وظائف شحيحة لكن واسطة من قبل أصدقاء العائلة قد تمنحك زقة. هذا جيل «الإسلام السياسى الوسطى البديل»، التمرد من أجل انتزاع السلطة وتسليمها إلى «الآباء الجدد»، لا من أجل تغيير تفكيرها إلا فى بعض الرتوش. هذا جيل إدراك وجود مشكلة، مع ضيق أفق لا يسمح له بالتفكير فى حل خارج الصندوق.. القناة الأولى والثانية ملعونة فى كل كتاب.
جيل وعى الثمانينيات كان بداية انقلاب المعادلة. بداية إدراك الأبناء للوهم. وهم المؤهل العلمى. وهم «الأخلاق الحميدة»، و«مَن جَدّ وَجَدْ ومَن زَرَعَ حَصدْ». مَن توظَّف منهم فى القطاع الخاص تلقى أضعاف راتب أبويه. واعتمد على نفسه بصورة كبيرة. اختار زوجته من خارج العائلة، ومن خارج بلد أبيه، ولكن بمعايير محافظة. لقد بدأت المعادلة تنقلب فى صالح الأبناء. لكن تأثير الطفولة المبكرة ظل قويا.
ثم إن جيل وعى التسعينيات كفر بهذا تماما. هذا الجيل الذى لم تقدم له الدولة أى شىء، لا تعليما محترما ولا نصف محترم، ولا شوارع نظيفة، ولا وظائف، ولا احتراما للآدمية فى أقسام الشرطة، ولا حتى حماية من تغول العشوائيات وسيادة منطقها. وفى نفس الوقت. هو الجيل الذى شهد اتساع رقعة القطاع الخاص. فارتبط به ولم يعد معوِّلا على الدولة. كما ارتبط سابقا بعالمية المعلومة ولم يعد متكلا على الجهاز الإعلامى للدولة.
فى هذا التوقيت بالذات، يا للغباء، استدعت الدولة الفاشلة ممارسة موغلة فى القدم لدى العائلة، توريث العُمودية، توريث القيادة. فى هذه اللحظة بالذات -يا للغباء- خرجت علينا الدولة «اليوليوية العائلية فى صيغتها المباركية» بفكرة التوريث. وهنا أطلق هذا الجيل الألف سفنَ ألف الكبيرة. الكبيرة جدا. وقال لهما «أفٍّ».
إن هذا التغير داخل الطبقة الوسطى لا يدركه مَن يخرجون على شاشات التليفزيون حاليا بكلام يعتقدون أنه منطقى، ولا يفهمون لماذا يثير كل هذا الضحك والسخرية. يتحدثون عن «كبير العائلة»، و«زى أبونا»، و«وولى الأمر»، و«السمع والطاعة». وصراع الأجيال هذا هو السبب فى المزاج الشعبى الذى يعشق برنامج «البرنامج». الرغبة المعلَن عنها لدى الأجيال الشابة فى تكسير القيود الأبوية/الشعارات الوطنية الرخيصة، والرغبة الكامنة الدفينة المقموعة لدى أجيال الوسط فى تكسير هذه القيود، ولو بالسخرية منها، بعد أن أثبتوا عجزهم عن تكسيرها على أرض الواقع.
ولأن نساء كل أمة مقياسها الحقيقى، فإن ابنة الطبقة الوسطى من جيل السبعينيات لا تزال تكافح وتدعو ليلا ونهارا بعودة الاستقرار، حتى وهى متعاطفة مع ٢٥ يناير. هذه الابنة نشأت فى كنف أم «فاهمة ومجرَّبة»، من شابات الستينيات، المهزومات، النادمات، السائلات الله التوبة والمغفرة. فلم تستطع الابنة أن تعيش أى مغامرة ذاتية. بل استسلمت لخيارات العائلة/الدولة. أما طفلة الثمانينيات فقد أحبت شخصا وتزوجت شخصا آخر. وفى الحالات التى تجاوزت فيها العذرية أسرعت إلى الزواج العرفى علشان الحرام. هذه ابنة جامعة السيطرة الإسلامجية. مَن جئن بعد هؤلاء فهمن اللعبة كأقرانهن من الرجال. فهمن أن الدولة والعائلة، وقيمهما، فشلوا جميعا. فأَعْطين العائلة والدولة والمجتمع هذا الغشاء الأخلاقى الرقيق، ثم فعلن ما يردن. جزاء وفاقا لما أعطته الدولة التى تخفت خلف «غشاء الوطنية» وهى تنتهك المواطنين. جزاء وفاقا لما أعطته العائلة المنهَكة المتعَبة، المحدودة الدخل، المتخفية خلف غشاء المظهر الاجتماعى، بينما هى مستسلمة لأخلاق العشوائيات.
كان هذا يحدث فى الطبقة الوسطى. والعائلة والدولة الشائخة غافلتان. فماذا حدث فى العشوائيات؟ غدا.