1 - التكوين
«١»
فى بداية الانتقال إلى الـ«سيتى» ظلت سلطة العائلة القروية قوية. تذكرى أباكِ وهو يحكى عن أبيه. تشعرين أنه يحكى عن زعيم روحى. مع أن جدك، غالبا، كان رجلا عاديا، له مزاياه وأخطاؤه. أبوك لم يكن يتعمد المبالغة. إنما كان يعبر بعفوية عن وعيه. فقد تربى على أن أباه منزّه أو شبه منزه عن الأخطاء. فى قرارة نفسه يعلم أنه «ولى النعم».
فى تلك الفترة أيضا، كان هؤلاء المهاجرون الجدد حريصين على الزواج من بنات عمومتهم، أو على الأقل «من البلد». ترين هذا كثيرا فى الأفلام أو حتى فى أسرتك. ولم يكن ذلك إلا محاولات من «الجد»، واقتناعا من الأب، لكى تستمر سلطة العائلة وتماسكها، ومعها ثروتها الموروثة كضمان لتلك السلطة.. إلخ.
«٢»
الدولة فى نفس تلك الفترة قدمت نفسها كقائمة بالدور الذى تقوم به هذه العائلة القروية. فطمأنت جدك الموجود فى الريف إلى أن أبناءه فى الحفظ والصون. تحت أعيننا. ما تخافش. ونالت الدولة بركة هؤلاء.
لكى تحكمى لا بد أن تعطى. وهذا الأب الكبير أو الجد حكم بسلطة معنوية، لأنه أعطى. لقد ضمن بداية كفاية الأولاد الذين يعيشون فى كنفه. وكان من حقه، من ثم، أن يتدخل فى حياتهم. ثم جاء جيل الآباء، الجيل الأول فى المدينة، وفعل شيئا قريبا من هذا، بمساعدة ابنة عمه التى تزوجها، وبالتالى بمساعدة العائلة، و-لاحظى هذا جيدا- بمساعدة الدولة التى شغَّلته، وأعطته بطاقات تموين، ووفرت مدارس لأولاده، إلخ إلخ. وهذا ما أعنيه بأن الدولة تعاقدت مع العائلة القديمة على القيام بدورها مع «الأبناء المغتربين فى المدينة».
«٣»
البشر يزيدون بمتوالية هندسية، بمعنى ٢، ٤، ٨. أما الموارد «الطبيعية» فتزيد بمتوالية حسابية، ٢، ٣، ٤. وبالتالى فإن الإنتاج الطبيعى لن يكفى التناسل الطبيعى. ولا بد لكل فرد أن يكون منتجا. هذه بذرة فكرة الرأسمالية. بالبلدى، ماينفعش تقعدى فى بيت أبيك وأمك بلا شغلة ولا مشغلة، آكلة قاعدة نايمة متعلمة.
أيام العهد الزراعى، البشرية تحايلت على هذه المشكلة بالغارات والغزوات. قبيلة، تُغير على جوارها، تأخذ محصولهم، وتقلل عدد رجالهم بالقتل، وتسبى نساءهم، وتأخذ أطفالهم عبيدا. وبالتالى تتضاعف الموارد التى تمتلكها هذه القبيلة، بينما يقل الطلب. لأن العبد يأكل فقط ما يقيم عوده. والنساء يتحولن إلى «ملك يمين» بلا حقوق، بل يستخدمن لتقليل النفقات التى ينفقها الرجال عادة «مقابل متعتهم». والأهم من ذلك أن القبيلة المهزومة تتنازل عن ملكيتها للثروة. التى تتحول إلى مغانم تزيد مساحة الملكية عند المنتصرين.
«٤»
فى العهد الحديث، ومع وسائل الإنتاج الحديثة المرتبطة بالـ«سيتى»، لم يعد ممكنا أن يستمر هذا. حتى لو أراد الأجداد، والآباء، وأرادت الدول. وبالتالى فقد خابت المعادلة وخربت. وحدث شيئان.
1- الطبقة الوسطى التى تمثل عادة ما ترغب الدولة فى تعميمه من سلوك حاولت أن تقاوم، وأن تحتفظ ببناتها وأبنائها فى البيت وأن تنفق عليهم، ولو على حساب رفاهيتها. حاولت إلى حين. ثم انهارت اقتصاديا. وكان لا بد أن يخرج الأبناء والبنات للعمل. وهذا أدى إلى تغير فى نمط سلوكهم. وفى اختياراتهم.
٢- نمت العشوائية على الأطراف. العشوائية هى غزو بلا حرب. وغنائم بلا سبى. نسميه تجميلا فى عصرنا الحديث: «وضع يد». العشوائية جاءت أيضا بمنطق سلوكى يختلف عما تريده العائلة المحافظة والدولة المحافظة. جاءت بمنطق آخر يتباهى ويقتات وينمو على اختراق القانون. ووجد بيئة ملائمة جدا. والمفاجأة أن هذه البيئة وفرتها الدولة وموظفوها (العائلات المحافظة). فصار السلوك المحافظ مجرد نفاق يخفى الحقيقة.
كل هذا والدولة العجوز تظن أنها لا تزال «كبير العائلة»، وجيل الآباء يظن أن «الأمور تحت السيطرة». بينما الإسلامجية يطمئنونهم بأنه إن سقطت الدولة فهناك من يحافظ على «العائلة»، ويقنعونهم بأن كل «الخراب» الذى حدث سيتعدل بكبسة زر. بنور التقوى. أمة كل همها أن تحافظ على غشاء رقيق. ما دون ذلك تفعل ما تشاء. وتقنع نفسها أنها لا تزال عذراء. غدا إذن.