طبعا لا أقصد الدكتور محمد بديع مرشد جماعة الإخوان الحالى، فالرسائل الأسبوعية التى تنهال علينا منه لا تحاول أن تضمد جراحا أو تمد يدًا لرأب الصدع فى مجتمع متوتر مرتبك مفزوع يعيش على أطراف أصابعه، وهى دائما ما تحمل اتهامات وتشق جيوبا جديدة للخلاف بين جماعته والمختلفين معها.
وقطعا أقصد الأستاذ مهدى عاكف المرشد السابق، فهو مثير للإعجاب والتقدير لأسباب كثيرة، أولها أنه واضح وصريح، والأهم أن «اللوع والكذب والتدليس» لا تعرف طريقا إلى لسانه، والمدهش أن يفعل ذلك ببساطة وتلقائية فى زمن صار فيه الكذب أكثر الصفات حدة فى سلوك وأقوال عدد كبير من أعضاء الجماعة.. وبضاعة أكاذيبهم بالقناطير على مواقع الإنترنت والصحف والفضائيات.
المهم أن الرجل الطيب مهدى عاكف نزع الأقنعة الخادعة كالعادة وقذفنا بالحقائق المستورة، وقد فعلها عشرات المرات من أول جيش العشرة آلاف مقاتل للدفاع عن غزة إلى «طز فى مصر وأبو مصر»، وقد برهنت الأيام على صحتها، خصوصا بعد وصول الجماعة إلى حكم مصر، وفى هذه المرة أزال ورقة التوت التى كان يتستر بها المتحدثون الرسميون للجماعة عن أخونة الدولة المصرية، طبعا كلهم أنكروا الفكرة وسخروا ممن رددها وحذر منها، ولن يكون الدكتور محمد البلتاجى آخر الجاحدين لها فى تصريحاته اللوذعية التى قال فيها قبل يومين: «مصطلح الأخونة سيخ محمى لتخويف الرئيس»!
ولا أعرف ما الذى يمكن أن يرد به الدكتور البلتاجى على مرشده السابق، فالمرشد اعترف بكل قوة ودون ضغوط: «إن مشروع النهضة الوارد فى برنامج الرئيس محمد مرسى الانتخابى لا يمكن تنفيذه دون أخونة أجهزة الدولة»! أى أن الأخونة ليست مجرد مصطلح «اخترعناه» مقصور على قاعات التخويف والفبركة والتشويه وإعلام الفلول، وإنما هو مشروع على أرض الواقع يجرى تنفيذه على قدم وساق، ويخرج لسانه ويلاعب أصابعه لكل المصريين.
وقد تصورت أن المرشد السابق قد يكون مبالغا، فهو مرشد على المعاش، وقد لا تتوافر له معلومات دقيقة، لكن حين تأملت ما قاله عن القضاء، أسقط فى يدى، ولم أجد مخرجا يصون ماء وجه الدكتور البلتاجى، فالمرشد السابق حدد رقم «ثلاثة آلاف قاض» للتخلص منهم فى أقرب فرصة، والأرقام تشى بأن الرجل على دراية بالمطلوب من أجل أخونة الدولة.
وكان يمكن أن نتفهم أسباب الأخونة كما بررها المرشد، فالدولة حسب تفسيره تعمل ضد الرئيس، ولا يمكن أن ينجح دون قيادات تدعم مشروعه وتتعاون معه.. وهذا كلام ظاهره الرحمة وباطنه عذاب الجحيم، لبقية المصريين، لأن الدولة لم تكن أبدا ضد الرئيس، فقد تخلص من قيادات القوات المسلحة، لأسباب بدت منطقية ومهمة، دون أن تسن الدولة أسنانها أو حتى تهمس فى سرها بالرفض.
وأغلب المصريين تمنَّوا للرئيس التوفيق فى مهمته مهما كانت الاختلافات عنه، لأنه قبطان سفينة الوطن، ولو فشل فى الإبحار بها، فكلنا خاسرون.
لكن الإخوان «والرئيس» بدلا من الاندماج فى الوطن، قرروا أن يدمجوا الوطن فى الجماعة، وهى عملية تشبه عملية زرع إسرائيل فى الأرض العربية وهى بيئة غريبة عنها تماما، فباتت إسرائيل عملية شاذة فى جسد كبير، مآلها الزوال عاجلا أو آجلا، فقانون الطبيعة لا يتغير وإن تعطل بالإكراه!
وهذا الدمج الإخوانى يعنى هدم كل مؤسسات الدولة وإعادة بنائها على قواعد وأسس أخوانية، فراحت المعاول تضرب بقسوة: فى الداخلية ثم فى القضاء والصحافة والإعلام والمخابرات والأزهر، وحاولوا مع المؤسسة العسكرية وما زالوا.
ولم يحدث فى أى دولة أن جاء رئيس بصندوق الانتخابات وفكك مؤسساتها، وأعاد تركيبها على مقاس جماعته، فقط يستبدل بالقيادات السياسية قيادات جديدة يرى فيها الكفاءة والمقدرة والانسجام على تنفيذ رؤياه، أما الوظائف الإدارية العليا والفنية فهى ملك للوطن كله، لا يقترب منها، والأهم أن ثمة معايير وشفافية فى اختيار القيادات ولا يفعل ذلك متسترا أو فى الخفاء ودون إعلان.
عموما هذه التغييرات لا تجرى إلا فى مجتمع استقر واستعاد توازنه واكتملت مقوماته.. لكن فى المراحل الانتقالية للدولة الحديثة يعمل التوافق العام بالتوازى مع صندوق الانتخابات، حتى يتلاشى الخوف من الأفئدة ويتقلص التوتر فى النفوس ويأمن الناس إلى مستقبلهم.
كم تمنينا أن تكون الأخونة مجرد مصطلح، حتى تتجنب مصر صدامات وصراعات دامية، لأن غالبية شباب مصر لن يقبل بالمشروع الإخوانى دفاعا عن مستقبلهم فى وطن عادل، لا يفرق بين مواطنيه حسب الانتماءات العقائدية والسياسية! لكن الإخوان مصرون على صناعة مناخ العنف.. فالشباب جرب مرارة سرقة الثورة وأحلامها، ولن يقف صامتا أو مستسلما أمام سرقة الدولة نفسها.