حدثنى زميلى فى 6 إبريل وقد بدا عليه حزن عميق من جراء إلصاق تهم التخوين والعمالة بنا.. وذكّرنى بأيام لا تُنسى، وبالتحديد يوم 10 أكتوبر 2010.. حيث كنا لا نتجاوز الخمسين شابا وفتاة.. لا نملك إلا أرواحنا نقدمها بكل عز وفخر إلى وطن أحببناه أكثر من أنفسنا.. شباب صرخاتهم طلقات.. ترهب وترعب قوات مجيشة من الأمن.. تثقل أكتافهم نسور وسيوف ونجوم.. تملكتهم.. انطلقنا كطيور.. نحلم بالتحليق فى سماء الحرية.. فى وطن صار سجنا كبيرا.. أخذنا نصرخ حرررررية.. حرررررية.. فانطلقت صرخاتنا تملأ فضاء الوطن أملا وعزما على مواجهة الاستبداد والقمع.
كانت الانطلاقة من شارع 26 يوليو.. وكانت المواجهة بالقرب من دار القضاء العالى.. حيث أحاطت بنا قوات الأمن المركزى.. على رأسها لواءات وعمداء وكأنهم أعدوا العدة لمواجهة عدو خطير.. وكانت قوات الأمن مدعومة بعدد كبير من قوات البلطجية فى لباس مدنى.. والذين صاروا وجوها مألوفة لنا.. وكيف لا وقد أمعنّا النظر فيهم وتفحصناهم - فى أكثر من تظاهرة - من قبل.. نبحث فى وجوههم عن البشرية التى فقدوها.. فهبوا علينا كما يهب الوحش الكاسر على فريسته.. فأوسعونا ضربا بالركلات والصفعات.. وفى تلك اللحظة كنا جميعا سواسية كأسنان المشط.. فلم يفرقوا بين شاب وفتاة.. وعلت صرخاتنا أكثر فأكثر حرررررية.. حرررررية.. فما كان منهم إلا أن جرجرونا وقذفوا بنا الواحد تلو الآخر فى سيارة الترحيلات المعتمة.. فاستطاعوا القبض على الكثير منا حتى وصل عددنا فى سيارة الترحيلات إلى 30 شابا وفتاة.
سلكت سيارة الترحيلات طريق الأوتوستراد محاطة بسيارتى أمن مركزى.. وأربع سيارات بوكس شرطة.. وخمس سيارات ملاكى بها الضباط.. وقد كنا نراقب المشهد خلف الشبابيك الصغيرة لسيارة الترحيلات.. فكان المشهد بالنسبة لنا أشبه بموكب من مواكب العظماء.. زفونا سالكين بنا دروب الصحراء القاتمة.. يسرعون بالموكب تارة ويبطئون تارة أخرى.. وكثيرا ما توقفوا بنا فى الصحراء يتدارسون أحوالهم.. وكأن بحوزتهم قنبلة موقوتة.. لا يدركون كيف يتخلصون منها.. وكنا نراقب وجوههم كأنما تمنوا لو يلقون بنا فى البحر.. ومن الواضح أنهم كانوا ينتظرون تعليمات عليا عن كيفية التصرف فينا.
وقد كانت سيارة الترحيلات شديدة العتمة والحرارة.. وقد قضينا فيها حوالى ثلاث ساعات.. تخللتها هتافات وضحكات تكسر حاجز الخوف من المجهول.. وأخيرا قرروا إطلاق سراحنا.. فقذفوا بنا الواحد تلو الآخر فى صحراء التجمع الخامس.. وتكشفنا الطريق سيرا على الأقدام حتى وصلنا إلى الحى السابع بمدينة نصر.
فما تعرضنا له فى ذلك اليوم.. تعرضنا له كثيرا على مدار سنوات قبل الثورة.. ولم يزدنا إلا إصرارا على مواجهة القمع والاستبداد والبلطجة.. حتى آخر رمق فى أنفسنا.. ولكن ما تعرّضنا له من تخوين وعمالة بعد الثورة.. عرّضنا لجرح غائر فى أنفسنا.. فأكثر الأمور إيلاما.. أن تتهم أكثر من ضحى بكرامته.. ونفسه.. وحياته.. من أجل حبه لوطنه بأنه خائن أو عميل.. فسحقا للكاذبين الظالمين.