أرجوك لا تنزعج، فلا توجد لدىّ نية للحديث عن أسعار العملة المصرية أو الأجنبية، وبالتأكيد فإننى لن أمس الاقتصاد، ولكننى مصمم على طرح ما طرحته دائما قبل الثورة وبعدها، فالأمراض عضال، وأعمق وأقدم فى التاريخ المصرى وفى الثقافة السياسية والاجتماعية المصرية. ما يهمنى فى القضية كلها ذلك التعبير «الشيك» بـ«السوق الموازية» الذى يعنى بصراحة «السوق السوداء»، أى تلك التى لا تشكلها مؤسسات رسمية كما اعتدنا فى معظم الفترة التى تلت الإصلاحات الاقتصادية عام ١٩٩١، وتعكس بدقة الأسعار «الحقيقية» فى السوق. ولما كان هذا لم يعد من مقتضى الحال، فقد باتت هناك عدة أسعار للعملة المصرية مقابل العملات الأجنبية يحددها القانون الاقتصادى الأسمى الذى لا يستطيع أحد الالتفاف عليه أو الدوران حوله: العرض والطلب. اعتبار ذلك مقدمة أو علامة من علامات الساعة أو الانهيار الاقتصادى ليس مهماً فى مقامنا هذا، ما يهمنا هو عملية التدليس القومية التى تجعلنا نسمى ذلك سوقاً «موازية»، أى مجرد سوق إضافية جاءت إلى جانب السوق الأصلية المشروعة والشرعية. المدهش فى الموضوع هو أن هذه السوق القائمة على العرض والطلب هى السوق الحقيقية والتى تعبر عن الحالة الاقتصادية فى البلاد كما هى ودون زيف؛ أما السوق «الشرعية» والتى لا تعبر عن القوانين الاقتصادية فهى «السوداء» حقا لأن احترامها يتيح لأصحابها هوامش للربح فى تجارة العملة غير المشروعة بقوانين السوق.
بالطبع فإن أحدا لم يتعمد هذه الأوضاع المقلوبة، أو الأوضاع «غير الطبيعية» ولكنها جزء أساسى من ثقافتنا كلها بأركانها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. قبل الثورة ركزت كثيراً على هذا الأمر فى مقالات كثيرة ملأت كتاباً بعد ذلك صار فى عنوانه أملاً أن تصير مصر «دولة طبيعية» يكون اقتصادها قائماً على الأساسيات الشائعة فى عشرات الدول التى تسبقنا فى جميع التقارير الدولية الرشيدة. فى مثل هذه الدول لن تجد من يتحدث عن «تحريك الأسعار»، وهو يعنى «ارتفاع الأسعار»، وبالطبع لن تجد شيئاً عن «السوق الموازية» للكلام عن السوق «السوداء»، وتحديت دائماً أن توجد دولة من دول العالم الرشيد، أو غير الرشيد فى الحقيقة، تحتفظ بنسبة ٥٠٪ فى المجالس المنتخبة للعمال والفلاحين، أو توجد بها صحافة تدعى «قومية» بينما الأخرى ليست كذلك فهى «خاصة» أو «مستقلة»،
وعن من لن تدرى أبداً. وأتحدى أن يجد أحد نظاماً لخبز الطعام مثل ذلك الموجود فى مصر؛ فالخبز كما نعرف سلعة مثل غيرها يذهب الناس لشرائها من المحال و«السوبر ماركت» حتى ولو لم يكن دائما «سوبر»، أو «المولات»، فيختارون حسب النوع والحجم والنوعية والأذواق المختلفة، وبالطبع حسب ما معهم من نقود. ولكننا فى مصر لا نترك الأمور لحالها، فالدولة تتدخل فى كل شىء له علاقة بالخبز، من مساحة القمح التى تزرع، وحتى الطحين الذى يطحن، وحتى الأفران التى تصنع. قس على ذلك ألف سلعة تدس الحكومة فيها أنفها بما فيها حتى تنظيم دخول الناس إلى الجنة عندما تكون ركنا أساسيا فى عمليات تنظيم الحج، والذى بالمناسبة تلعب فيها وزارة الداخلية دورا مهما، فلديها «القرعة» والموافقة على الجمعيات الأهلية والشركات التى تنظم السفر إلى الديار المقدسة.
«السوق الموازية» ليست اختراعاً جديداً إذن، كما أنها ليست اختراعاً قديماً أيضاً لأن ما جرى فى العهد القديم ظل على حاله مع الزمن الجديد. ما شاع بيننا أن «شواشى» النظام ذهبت وبقيت جذوره وأركانه كما هى؛ ولكن ربما كان الأخطر أن القيم الحاكمة للنظام المصرى آنذاك فى أيام الشتاء، ظلت شائعة على حالها عندما جاء الربيع. كان المجتمع كله يعيش على «إدارة الفقر» بينما مجتمعات العالم «الطبيعية» عملت على «إدارة الثروة» حتى سبقتنا عشرات من مجتمعات العالم لم يكن أى منها لا لديه حضارة ستة أو سبعة آلاف عام،
ولا كان فيها من بات مصنفا ضمن خير أمة أخرجت للناس. كان التكالب على توزيع الثروة سائدا بقوة بدلا من تراكمها قبل الثورة العظمى فقامت «الفئويات» بتقديم ٢٦٦ احتجاجاً فى عام ٢٠٠٤، وصل إلى ٦٣٠ احتجاجاً عام ٢٠٠٨، وفى العام السابق لمولد الاستيلاء على ميدان التحرير كانت هناك خمسة احتجاجات تجرى يوميا. الآن ووفقا لتقرير نشرته كل الصحف المصرية، وفى شهر مارس المنصرم وحده بلغ عد الاحتجاجات ١٣٥٤ احتجاجا، بمتوسط ١،٨ كل ساعة، و٧،٢ كل أربع ساعات و٤٤ يوميا و٣٠٦ أسبوعيا. الغالبية فى كل ذلك لم تكن للسياسة وإنما لإعادة توزيع ثروة غير موجودة، وما كان منها موجودا تبخر خلال العامين الماضيين بعد انتهاء الأيام التعيسة.
الشائع بين المحللين الثقاة الذين يقدمون «البدائل» للمجتمع والدولة على كافة القنوات والأدوات الإعلامية أن تلك الحالة من الاستمرارية المذهلة راجعة إلى حالة «التجريف» السياسى والمهنى والفوضى والفساد الذى ترعرع فى العهد السابق الذى لم يحقق الكثير للمصريين سوى أنه ترك من الاحتياطى النقدى قرابة ٤٥ مليار دولار فقط، وكان نموه لا يتعدى ٧٪ بكثير، ولم يبن أكثر من ٣٠ مدينة، وما تبعها من محطات للطاقة ومطارات وموانئ وطرق كانت أقل بكثير مما يحتاجه الشعب المصرى. ولكن أليس لهذا القصور وغيره قامت الثورة، وإذا لم تكن الثورات بقادرة على التغيير وتقديم البديل لهذه الأيام البائسة،
فلماذا قامت إذن وقد جاءت إليها نخبة جديدة تسد وجه الشمس، وتقوم بمظاهرات مليونية، وتكون أحزابا شعبية بدلا من تلك «الكرتونية». هل جرى تجريف النخبة السياسية حقا كما هو شائع، وإذا كان ذلك كذلك فمن هؤلاء الذين شهدناهم على أكثر من ١٠٠ محطة تليفزيونية، وفى مجلس الشعب الذى جرى حله، ومجلس الشورى الذى لم يحل، وفى مجالس الإرشاد وجبهات الإنقاذ الوطنى؟ أم أن المسألة ليست عما إذا كانت النخبة قد جرى تجريفها، وإنما أن محتواها الجديد لا يختلف كثيرا عما كان حالها قديما؟
هل يمكن لأحد أن يفسر «الخناقة» القائمة فى حزب الدستور الليبرالى الذى يقوده مفجر الثورة وقائدها الدكتور محمد البرادعى؟ هذه نخبة لم تكن فى الحزب الوطنى الديمقراطى، ولا كانت فى حزب الوفد أو التجمع، ولكنها نخبة جديدة جدة الثورة، وفيها من العلماء والليبراليين ما يكفى أمة وزيادة، فماذا بقى منهم على أى حال سوى أنهم فى حقيقتهم يشبهون النخبة القديمة فى التنازع على مناصب لم توجد بعد إلا فى «سوق موازية» أخرى. ترى هل وصلت الرسالة؟