الطريق إلى الحمام يعرفه بألفة خمسين عاما فى البيت نفسه دون حاجة إلى مصباح. كانت الساعة تناهز الثالثة ليلا ولم يكن يدرى هل نام أم لا. نظر عَرَضاً إلى المرآة فتجمد من الرعب، حينما شاهدها تدلف فى هدوء إلى غرفة نومها الموصدة منذ موتها بإحكام.
لم يكن لديه شك أنه مستيقظ وأنه رآها بالفعل! وأن ما شاهده ليس أضغاث أحلام.
هذه الليلة بدت كسائر الليالى. سهد يخالطه نوم مضطرب. ازداد شربه للماء كثيرا فى الآونة الأخيرة وبالتالى دخول الحمام. ينبغى أن يجرى تحليلا للسكر! مرض السكّرى ليس بعيدا عن رجل تجاوز الخمسين. والدته نفسها كانت مريضة بالسكر، أما أبوه فلا يعرف عنه شيئا. توفى فى سن مبكرة وتركه لها تنشئه كما تشاء. كان صغيرها المدلل الذى لا تسمح لامرأة بأن تقترب منه!. تستخدم الحزم وتجيد الشكوى واصطناع المرض عند اللزوم. أو لعلها كانت مريضة بالفعل وهو يظلمها بالظنون. رحلت بعد مرض قصير لازمت فيه الفراش. وكان يهرب من مواجهة عينيها، تنظران نحوه برعب وغرابة، وكأنها تتساءل: «هل أنت سعيد بالتحرر من سجّانك؟ هل ستمرح وتلهو أخيراً مع النساء؟». وكان يتعمد أن يخفض رأسه لتشاهد شعره الأبيض، وكأنه يقول لها فات الأوان.
حينما ماتت أصر على إغلاق غرفتها، متجنبا النظر إليها، شاعرا أنه فى قبر كبير. ولو وجد مأوى آخر لهجر هذا البيت بلا تردد.
حينما أبصرها تتسلل إلى غرفتها أحس بذعر هائل. الغرفة مغلقة كأنما لم يحدث شىء. تمنى لو يستطيع العودة إلى غرفته وتجاهل الأمر. لو كان ما رآه لصا متسللا لكان ذلك أجمل أحلامه، ولكنه كان يعلم أنها هى.. عادت إلى البيت.
طرق الباب فى تردد. ثم غامر بكل شىء وفتح الباب دفعة واحدة. تراجع فى ذعر حينما شاهدها، راقدة على سريرها كما كانت فى أيامها الأخيرة، هزيلة ضامرة، لكن عينيها ظلّتا قويتين كاشفتين.
قال وكأنه يكلم نفسه: «والدتى ماتت وقد دفنتها بيدى». قالت بلهجة مشتكية: «هل هان عليك أن تدفن أمك وهى على قيد الحياة؟ أنت لا تحب أمك، وتريد الخلاص منها. عار عليك». قال مدافعا عن نفسه: «لقد بكيتُ حتى أشفق الجميع». ضحكت فى خبث: «ولعلك بالغت فى إظهار حزن لم تشعر به لتخفى إحساسك بالارتياح». قال فى توسل: «أرجوك اذهبى. أنت لست والدتى». قالت فجأة فى اهتمام: «لماذا تستخدم كلمة أمى بدلا من والدتى؟». قال منفجرا: « أنا أكره هذا البيت، وأكره نفسى أيضا و..». قالت فى نعومة: «وتكرهنى. تكره أمك، أليس كذلك؟». قال فى توسل: «أرجوك اذهبى فأنا أعلم أنك غير موجودة». قالت بصوت عطوف: «ألم تفهم بعد أننى نفسك! أنا الواقف على باب الغرفة وأنا الراقدة على السرير! أنا الجزء داخلك الذى تحرص على قمعه، لأنه يكره أمك التى منعتك من الحياة! لماذا تلوم نفسك بينما هى المخطئة فى حقك؟! صدقنى لن أختفى حتى تصالح نفسك».
وبرغم أنه أغمض عينيه فى قوة، إلا أن دموعه راحت تنساب من تحت جفنيه.