يخطئ الإخوان، بل يرتكبون خطيئة، حين يظنون أن مصر الكبيرة العريقة يمكن أن تدخل طيعة خانعة فى عباءة جماعتهم الضيقة المهترئة الخشنة الرخيصة، فلا الجماعة لديها من سعة الفكر وعمق التصور ومرونة التصرف ما يجعل بوسعها أن تستوعب كل هذا الزخم الشعبى والقيم والثقافات والتقاليد المتوارثة، والطبقات الحضارية المتتابعة والمطالب المتنوعة للمصريين، ولا مصر بوسعها أن تتصاغر وتتضاءل لتدخل طيعة فى عباءة أو فم أضيق من ثقب إبرة، يخفق فى أن يرد عن الإخوان هذا السيل العرم من أفعال وأقوال تقوضهم وتصيب تنظيمهم من أطرافه وفى قلبه.
فالإخوان يعرفون عن «عبس» و«ذبيان» أكثر مما يعرفون عن «تحتمس» و«أحمس»، ويحفظون تاريخ «ثعلبة» و«بلتعة» لكنهم لا يفقهون شيئا عن «إخناتون» الذى نادى بالتوحيد، ولا «متون الأهرام» التى حوت نصائح عميقة وعظات خالدة تشبه «الوصايا العشر»، ولذا ليس بوسع الجماعة ولا بمكنتها أن تدرك طبيعة البلد الذى قدر لها أن تنشأ فيه، وتتمدد فى أعطافه، حتى تصل إلى أعلى هرم للسلطة به. وهذا الجهل بمصر وقيمتها ليس ابن هذه الأيام لكنه صاحب ميلاد الإخوان، إذ كان مؤسس الجماعة يفاضل بين عدة دول ليطلق فى أى منها دعوته، واحتار فى البداية بين اليمن ومصر، لكنه اختار الأخيرة، لعوامل تخص الأمن والحسابات المصلحية الضيقة أكثر مما تخص استيعابه لقيمة البلد ومكانته. وهكذا استمر نظر الجماعة إلى الوطن، حتى وجدنا مرشدهم مهدى عاكف يقول ذات يوم: «طز فى مصر» ويعترف بأنه لا يجد أى غضاضة فى أن يحكم بلدنا شخص من ماليزيا أو غيرها من البلدان الإسلامية. ووجدنا شباب الإخوان يهرولون نحو رئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوجان فى أول زيارة لمصر بعد الثورة ليستعيد معه أيام «الإمبراطورية العثمانية» التى استنزفت مصر ونزحتها، وأخذت كل مفيد فيها ولم تعطها شيئا، لا علم ولا حرية ولا حتى حماية للشعب المصرى الذى تركته يرسف من جديد تحت حكم المماليك، وكلاء وأعوانا لآل عثمان.
ويخطئ الإخوان حين يلقون بكل أوراق اللعبة فى يد الولايات المتحدة، متناسين المثل المصرى العبقرى الذى كانوا يرددونه هم أنفسهم أيام حكم مبارك «المتغطى بالأمريكان عريان»، وراهنين إرادة بلدنا واستقلال قراره لصالح توجهات واشنطن ومصالحها، ليتحولوا بالنسبة لها إلى «كنز استراتيجى بديل» بعد رحيل «كنز مبارك»، ويتصرفوا وكأن كل شىء سيصبح طوع بنانهم ووفق مشيئتهم ما دام «الكفيل الأمريكى» راضياً عنهم، ولا ينشغلون بسخط المصريين ولا غضبهم، ولا تقريعهم للجماعة ونعتها بخيانة الثورة وافتقاد الكفاءة فى إدارة الدولة، لأن غاية ما يشغلهم هو رضا أمريكا التى ساعدتهم على الوصول إلى الحكم، متناسين أن من انتخبهم هو الشعب المصرى، وساعين إلى تغيير قواعد اللعبة وشروط الانتخاب والاختيار وكل العناصر التى تؤثر فيه، حتى يصبح رأى الشعب وتوجهه فيما بعد غير ذى جدوى. وهى الطريقة نفسها التى كان يفكر بها مبارك ويتصرف حتى وقع فى شر أعماله.
ويخطئ الإخوان حين يهتمون بالخارج عموما، فيخاطبونه ويراسلونه شارحين له ما يجرى لهم، واقفين ليبكوا على أعتابه، خالقين أمامه «مظلومية جديدة» أغلبها مصطنع وأكثرها تمثيل فى تمثيل، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء الوقوف أمام الشعب المصرى ليستعرضوا أمامه هو، مصدر السلطات ومنشئ الإرادة، كل شىء، ويعتذروا له هو عن كل ما بدر منهم من أفعال سيئة من قتل وسحل وتعذيب وتعويق لمسيرة الثورة.
ويخطئ الإخوان حين يرى الناس هذا التناقض الرهيب فى موقفهم من الصراع العربى ـ الإسرائيلى، ما بين «خيبر خيبر يا يهود.. جيش محمد سوف يعود» قبل الثورة إلى رسالة محمد مرسى الحميمة لنظيره شيمون بيريز بعد أن وصلوا إلى الحكم التى يقول له فيها «صديقى العزيز جدا».
ومن كلام قادتهم عن «الصهيونية» على مدار ثمانين سنة إلى دفاع عصام العريان عن «حق العودة» لليهود إلى مصر، وهو يعلم أنهم لن يعودوا لكنهم سيستخدمون قوله هذا فى طلب تعويضات رهيبة من مصر، لا يشغل الإخوان كيف ندفعها، إنما ما يشغلهم أن ترضى عنهم تل أبيب وتقول لحلفائها فى واشنطن: اتركوهم فى الحكم وساعدوهم فهم لنا ورهن إشارتنا. والمسألة هنا لا تقف عند حدود إسرائيل، ولا «القضية الفلسطينية» بوصفها قضية العرب المركزية، إنما هى مجرد مثال صارخ على إمكانية حدوث انقلاب تام فى السياسة الخارجية لجماعة الإخوان، لاسيما أن من يدير دفتها، ليس من وصل إلى الرئاسة، ويعتبرونه مجرد رئيس شعبة من شعب الجماعة، إنما مكتب الإرشاد كله، الذى يتحكم فى مقاليد الأمور، ومعه العناصر النشطة فى «التنظيم الدولى» للجماعة، والذين أحاط بعضهم بمرسى، وأسندت إليه مهام خارجية أكبر من طاقته وخبرته، وأبعد من أنف جماعته.
ويخطئ الإخوان حين يتوهمون أن بوسعهم أن يتمادوا طويلاً فى «خداع» العالم مثلما خدعوا المصريين، ويستدرجوا الكل فى مشارق الأرض ومغاربها إلى فخ التعاطف معهم والإشفاق عليهم، والذهاب إلى أقصى حد فى تأييدهم والاعتقاد فى أنهم طرف صادق الوعد، موثوق العهد، يظهر ما يبطن، ويقول ما ينوى فعله، ومأمون على أن يكون طرفا طبيعيا فى السياسات والعلاقات الدولية الراهنة. فها هى كفيلتهم أمريكا، تكتشف سريعا أن للجماعة وجهين، وها هى ألمانيا التى طالما قالت «لنمنحهم فرصة» تستعيد تجربة هتلر وترميها عليهم، وتخشى أن يكونوا أيضا ممن يتسلقون سلم الديمقراطية، ثم يرفعونه خلفهم، حتى لا يصعد غيرهم عليه، وها هو رئيس الهند يقولها صراحة لمرسى حين زار نيودلهى: «الديمقراطية لا تمارس لمرة واحدة».