هل نحتاج لتسمم مئات الناس لكي ننتبه أن السياسة عالقة في المربع الأول؟
وحتى عندما تتهدد أرواح الناس، لا يبدأ التساؤل عن مدى التفاوت بين ما ينفق من أجل الحرص على صحة الرئيس أو شيخ الأزهر وبين ما ينفق من أجل ضمان صحة مجند أو طالب مغترب في المدينة الجامعية أو أمان تنقل طالبات معهد أزهري (الأزهر أيضا كان حاضرا في حادث قطار أسيوط).
لماذا لا نتساءل عن ذلك؟ لأن ذلك هو «النظام». ما لا يتم التساؤل بشأنه بصوت عال هو «النظام» المتفق عليه أو الذي يقنع به الناس ويخضعون له أو ييأسون من تغييره.
لماذا يبدو ذلك «النظام» بعيدا جدا عن أيدينا. لأن المربع الأول الذي يضم متاريس «النظام» لا يزال هو نفسه وإن تغير الرجال وأحيانا لم يتغيروا.
احتجاجاتنا لا تزال أمام هذه المتاريس في المربع الأول كل مرة. ويتوقف النقاش عند: هل ذلك يمس شرعية الرئيس أو شيخ الأزهر؟ وفي الواقع أن كليهما واقف في مواجهتنا خلف متاريس المربع الأول.
القيادي الإخواني محمد مرسي الساكن في قصر الاتحادية قصته الآن على كل لسان وفضيحته بجلاجل. ولكن شيخ الأزهر هو البعيد غالبا عن مرمى الجلاجل لأسباب كثيرة.
ولكنه متورط في نفس المربع. مربع الحفاظ على سلطته وعلى بقاء الأوضاع على ما هي عليه تحت لافتات «التغيير». وهذه فرصة جيدة لنتكلم عن معنى «الاستقلال» بعيدا عن رنين الكلمة.
الطيب في مواجهة الدعوة إلى استقلال الأزهر أجرى حوارات مع بعض الائتلافات الأزهرية، ولكنه أعد تعديلات قانون الأزهر في يناير 2012 بالتشاور مع المجلس العسكري وحكومة الجنزوري وأصدرها المجلس العسكري وقت توليه سلطة التشريع قبل انعقاد البرلمان الذي بدأ عمله بعدها بأيام. قطع ذلك الطريق على تيارات البرلمان وعلى الجدل المجتمعي من المساس بـ«مؤسسة الأزهر» وأيضا «قيادات الأزهر».
ولكن الطريق الذي تم قطعه هذه المرة لا يزال موجودا ومفتوحا لمرات أخرى، راجعوا فيديو برهامي وهو يشرح فقه الانتهازية السياسية في أفضل دستورعرفه العالم. لا يزال البرلمان يضع قانون تنظيم الأزهر ( أي استقلال؟) والرئيس يجب أن يوافق على تعيين أعضاء هيئة كبار العلماء بعد اقتراح وعرض من شيخ الأزهر بحكم القانون ( أي استقلال؟).
ولكن في المرة الأولى لاختيار الهيئة، حصّن الطيب نفسه ونخبته القريبة عندما جعل لنفسه الحق، وفق القانون الذي شارك في إعداده، أن يختار هو كل أعضاء هيئة كبار العلماء. ولكن من أجل «منظر الاستقلال» أمر بتشكيل لجنة اختارها هو لكي تختار هيئة كبار العلماء.
امتعض الإخوان والسلفيون من متاريس أحمد الطيب لتحصين نفسه ورفاقه في قانون الأزهر، ومنحهم فقط تمثيلا شرفيا بوجود القرضاوي ورئيس الجمعية الشرعية في الهيئة. إلا إنهم أدركوا بعد مقلب الدستورية وحل البرلمان أنهم بحاجة لمؤسسة لكي تكون «متراسا» للمرجعية الدينية في مواجهة المحكمة الدستورية التي تحمي حريات المواطنين ومساواتهم. لأن العقدة هي في استخدام «الشريعة» لتشريع ما ينتقص من الحريات والحقوق أو يخل بالمساواة. ولذلك كان الإصرار على النص على مرجعية هيئة كبار العلماء في الأزهر فيما يخص الشريعة. (تيجي إنت بقى يا عدو الإخوان يا جميل تدافع عن مرجعية الأزهر ضد الأخونة!)
رغم كل أزماته الوجودية، فإن هاملت صلاح أبو إسماعيل كان من القلائل الذين رفضوا المشاركة في مهرجانات وثائق الأزهر مطالبا بالتمييز بين مؤسسة الأزهر وبين قيادتها الحالية، وكانت ملاحظته الجيدة أن هيئات أوسع مثل «مجمع البحوث الإسلامية» تعبر عن الأزهر أكثر من مكتب شيخ الأزهر الذي يدير لعبة التوازنات السياسية التي تدور في نفس المربع.
يمكننا أن نأخذ بنصيحة أبو إسماعيل، وبدلا من أن نتحدث عن «وسطية الأزهر» لنتحدث عن وسطية «قيادات الأزهر» التي أشرف الأمن على «فلترتها» لعقود لكي تمنع وصول الإخوان والسلفيين إليها.
يمكن ساعتها أن نتحدث عن «تواؤم» لا «اعتدال». ولكن لكي نعرف الميل العام لأبناء المؤسسة الأزهرية. نحتاج لبحث كم عالما أزهريا في «الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح» الذراع الدعوية لتيارات السلطوية الإسلامية. وسيكون مفيدا أيضا أن نتأمل نتائج انتخابات الاتحادات الطلابية في الأزهر. التي اكتسحها بالكامل طلاب الإخوان المسلمين مع منافسة محدودة من طلاب الدعوة السلفية. أين الطلاب «الوسطيون» الذين يدرسون في الأزهر؟
يمكنك تخيل مستقبل مؤسسة الأزهر أو مستقبل قيادات مؤسسة الأزهر وهم يتواءمون مع «السلطة الجديدة». بعض أعضاء هيئة كبار العلماء بدأ التواؤم بقوة، وردد ما يمكن أن يضعه تحت طائلة باسم يوسف. والهيئة كلها تقوم الآن بتمارين للتواؤم في كل الأوضاع مع السلطة. الحكومة أخذت رأيها في المشروع الأول للصكوك، وغضبت الهيئة من مجلس الشورى لأنه تجاهل أخذ رأيها في المشروع المعدل للصكوك. فصالحها مرسي وأرسل لها المشروع. وفي النهاية الأزهر الذي ينأى بنفسه عن «الأمور الحزبية» اجتمع مع وفد حزب النور تحية له على إصراره على عرض المشروع على الهيئة.
جدير بالذكر أن حزب النور قبل سنة في البرلمان المنحل تقدم بمشروع قانون لتعديل قانون الأزهر وحذف وصف الأزهر بأنه «المرجع النهائي». وسبحان مغيّر الأحوال والمصالح.
المهم أنه في وسط كل ذلك الإسباجيتي، لا تساؤل عن حقيقة استقلال المؤسسة وسط كل هذا التشابك مع عمل السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية، وعن سبب تضخم المؤسسة الأزهرية أصلا منذ عهد عبد الناصر في نفس الوقت الذي قام فيه بسلب أوقافها وحرمها الاستقلال المالي، وعن سبب خلق أطراف صناعية لجامعة الأزهر تقوم بتدريس الطب والهندسة وغيرها، وفي نفس الوقت قطع كل أذرعها الدعوية ومنح سلطة إدارة المساجد كلها لوزارة الأوقاف، وفي ظل هذا الوضع الرديء لا يشكو فقط الطلبة من سوء ورداءة الخدمات والتعليم ولكن يشكو أئمة الأوقاف أيضا - بالإضافة لضعف أجورهم - من شعورهم بالظلم من احتلال قيادات إخوانية - أو متحالفة مع الإخوان – كراسي الوزارة. في الوقت الذي ينشغل فيه شيخ الأزهر وهيئة كبار العلماء بالعمل كمستشارين للحكومة والبرلمان، لا يملك أيهم أي اتصال ولا صلة رسمية بأي إمام أو خطيب في أي مسجد من مساجد مصر، التي يديرها الآن الإخوان وحلفاؤهم في وزارة الأوقاف.
«استخدام» الأزهر في لعبة السلطة كان مرهونا بقصقصة أجنحته الجماهيرية، لكن مع منحه الحصرية والمرجعية لكي تتكئ عليها السلطة بينما يتفرغ الأمن لمواجهة غيره وقمعهم، والمرجعية دائما يجب أن تكون في حضن السلطة ومؤسساتها، ويجب أن تتركز في مؤسسة دينية ملحقة بالدولة لكي يمكن التفاوض معها ولكي تكون جزءا من «النظام» على الدوام.
هذا المربع لا يتم التطرق إليه أصلا لأننا ما زلنا في المربع الأول العقيم: هناك عدم رضا إخواني عن أحمد الطيب فيقف بعض معارضي الإخوان بجانبه «دفاعا عن الأزهر» ضد «الأخونة» في حين يصب اتحاد الطلاب الإخواني غضبه على شيخ الأزهر لأنه أصلا « فلول». وطالما ظل الأزهر سيفا ودرعا في ساحة السياسة فإنه سيظل غنيمة مؤجلة وساحة صراعات. والتوهم بالدفاع عن وسطيته أو إبعاد «المتطرفين» عن قيادته ليس إلا قصر نظر ومساهمة في البقاء أكثر في المربع الأول.
وبسبب سلطة حمقاء فاشلة تحولت ساحة السياسة إلى جدل حول الأخونة والوسطية، بدلا من جدل عن الاستقلال والتغيير. لا تزال الحشود الغاضبة مضطرة لمحاصرة قصر الرئاسة ومكتب الإرشاد ومشيخة الأزهر، وهناك تكتشف الحشود أنها أمام متاريس المربع الأول، وأن «النظام» لا يزال يحبسنا فيه. مرة برجال جدد مثل مرسي وإخوانه ومرات برجال قدامى مثل الطيب وإخوانه.
الغضب لا يزال في الشارع، من كان يتصور أن نشهد حصارا واقتحاما لأسوار مشيخة الأزهر. وهذه المرة اضطر المشايخ إلى النزول على رأي التلاميذ. ربما يتعلم الشطار بالتكرار أن المتاريس والأسوار كلها لا تفيد.