ربما يتذكر قراء أعزاء أننى شكوت من قبل من أن الكتابة عمل مُضنٍ إذا التزم القلم بقيود ومقتضيات الصدق والضمير، لكنها فى سهولة «الإسهال» وتلقائية «التبول اللإرادى» عندما تستحيل نفاقا يتوسل بالجهل ويَتَغَيَّاه، وسباحة فى بحر الكذب والتضليل الذى بغير شطآن، غير أن الكتابة عموما، وفى الصحف السيارة بالذات، إبداع له خصائص الكائن الحى الذى تتجدد خلاياه بالضرورة من صيرورة الحياة فى المجتمع وغناها بالتنوع، وعندما تأتى كل إشراقة شمس بشىء فيه جدة، والكتابة كما أى شىء آخر تذوى وتموت فى أجواء الجمود العطنة وعندما يسود الملل وتهبط الرتابة بثقلها على الناس والأحداث ويتفشى الجدب والضجر ويصير المشهد السياسى والمجتمعى «طبيعة صامتة» أو صورة التُقطت من الفضاء البعيد لخرابة يسكن فيها الحطام والركام والأوساخ من كل نوع، وقد زهق منها حتى الذباب فهجرها وحرمها صوت طنينه وتركها تغرق فى صخب يشبه صمت القبور!
فى حالة من هذا النوع من أين يأتى الكاتب -أىّ كاتب- مهما علَت همته وتفوقت مؤهلاته ولمعت أدواته بالقدرة على مقاومة النضوب والفشل والعجز عن أداء وظيفته.. هذا الكلام ليس تبريرا بقدر ما هو بوح وشكوى مريرة هى أيضا ليست جديدة بل مُعادة ومكررة مما يضاعف الآن أحساسى بالألم والشعور بالذنب إذ اتخذت منها مضطرا موضوعا لكتابة سطور اليوم بعدما أعيتنى الحيل وقادتنى تأملاتى اليومية (بحكم المهنة) فى أحوال وأوضاع مجتمعنا إلى اعتقاد راسخ بأننا قفزنا بعد ثورة رائعة من الرمضاء إلى النار مباشرة ثم سكنا تماما فى قلب مسرحية من مسرحيات كوميديا المسخرة أو العبث واللا معقول.
يقول شارحو ومنظِّرو مسرح العبث إنه لم يألُ على نفسه فى مواجهة وتعرية عبثية ولا معقولية واقع الحياة الإنسانية وجدبها وزيفها عن طريق محاكاة هذه الحقيقة المرة ونقلها عارية على خشبة المسرح بغير ذواق كاذب باستخدام تناسق ومنطقية درامية تفتقر إليها الحياة خارج قاعة العرض، لذلك وضع صمويل بيكيت أبطال أحدى مسرحياته وسجنهم فى براميل فلم يظهر من أجسادهم غير الرؤوس وظلوا يتبادلون فى ظلام شبه تامّ الصمت وكلمات بلا معنى ولا سياق حتى انتهت المسرحية!
ويصور جان جينيه فى مسرحيته «الخادمتان» هروب بطلتيه من حياة الانسحاق والعدم التى تعيشانها فى الحقيقة إلى أكاذيب تلقيها كل منهما على مسامع الأخرى بينما تتقمصان بالتبادل دور سيدة البيت فى لعبة مكشوفة ولا نهائية تتباريان فيها حتى يسدل ستار المشهد الأخير!
والفكرة الأساسية فى مسرح العبث هى الفوضى الشاملة وأن لا شىء فى مكانه وأن حياة الناس تمضى آلية ورتيبة وفى حلقة مفرغة تجعل «اللى نبات فيه نصبح فيه» هو اليقين الوحيد فى واقع ثابت بقسوة لدرجة العدم، فالأعمار تفنى والأجيال تطلع ثم سرعان ما تخبو وتندفن بينما الأحداث تتكرر والأنباء والأخبار تعيد إنتاج نفسها فيستحيل الوجود الأنسانى فراغًا يُولَد من فراغ…
وبعد، فلنهبط عزيزى القارئ، من هذا التحليق فى المطلق وتهاويم الكلام الكبير وأدعوك لتنظر حولك قليلا.. يعنى اقرأ الصحف وأعد قراءة كُتابك المفضَّلين بمن فيهم العبد لله، هل فيها جميعا أى جديد يُذكَر من سنين طالت حتى نسينا متى بدأت؟ الموضوعات عينها والمآسى والكوارث والبلاوى نفسها، واللغة أيضا تحجرت ووقفت عند مفردات من نوع البؤس، والتخلف، والجوع، والفقر، والبطالة، والقمع، والتعذيب، والتزوير، إلخ، ربما الجديد نسبيا تعبيرات وألفاظ من نوع «الذراع الرئاسية» و«الخيبة القوية» و«الفشل الذريع»، فضلا عن «الصندوق» بنوعيه (حامل الأوراق وحامل الجثث)، وكذلك «التمكين» و«جماعة الشر» السرية و«العصابة» و«المليشيا» و«النصب» و«الكذب» و«المخاتلة» و«المراوغة» و«البطلان»، إضافة إلى الأستاذ «العريان» وخلافه.. بيد أن كل هذه المفردات المستحدثة دخلت بالفعل وبسرعة رهيبة آلة التكرار والملل.. والقرف كذلك!
فليرحمنا الله برحمته الواسعة.