كان موكب العروس ينطلق عبر شوارع المدينة، قاطعًا الطريق كالعادة.. لا تذهبوا لأى مكان يا سادة فنحن منتشون.. انتظروا حتى ننتهى من نشوتنا. كان موكبًا شعبيًا يتكون من عدة سيارات نصف نقل تحمل الأثاث والأجهزة الكهربائية والمفروشات، وقد اعتلى كل سيارة نحو عشرين بين نساء ورجال. أصوات الكلاكس تصم الآذان، لكن هذا كله مقبول.. الغريب فى الأمر هو أن الشباب الذين يستقلون كل عربة كانوا مدججين بالسلاح الأبيض والسيوف والسنج، وهم يرقصون بها ويلوحون فى فخر. لا أعرف دور السلاح الأبيض هنا، لكن ربما كان نوعًا من استعراض العضلات وتخويف الخصوم على الطريقة القبلية، وقد كانت هناك أغنية أفراح قديمة فى قرية قحافة المجاورة لطنطا:
ده احنا بنات قحافة.. واللى يعادينا مين؟
ده أقل واحدة فينا.. تضرب بالسكاكين
السؤال هو: عندما تلتهب الليلة وعندما يشرب هؤلاء الشباب البيرة ويبتلعون الترامادول ويدخنون البانجو – وهم ولابد فاعلون – فماذا يضمن لك ألا تستعمل هذه الأسلحة لغرض أعنف من استعراض القوة القبلى هذا؟..
تساءلت: من يستطيع أن يجمع هذه الأسلحة ثانية ويسيطر على الموقف؟.. لو عاد للحياة وزير داخلية قوى مرعب من وزن فؤاد سراج الدين أو ممدوح سالم فلن يستطيع.. حتى موسولينى نفسه لن يقدر على السيطرة على البلد الذى أفلت عياره فعلاً، وبالفعل كنت أتمنى لو لم يدخل الاخوان مستنقع السياسة لأرى ما كان سيفعله الرئيس الآخر. المشكلة أن الأمر لم يعد يتعلق بمجموعة بلطجية يعرف رجال مباحث القسم اسماءهم وعناوينهم، بل يتعلق بشعب بدأ يتحول إلى بلطجية بالكامل على طريقة مسرحية الخراتيت ليونسكو. كل طبيب فى استقبال مستشفى يعرف صدق هذه المقولة.
هذا يعنى أن أمامنا عشر سنوات أخرى حتى يسود التحضر والقانون من جديد، وبعد ما ساد مفهوم أن تحدى القانون (جدعنة) لا شك فيها. إذن هناك جيل قد ضاعت فرصته وسط هذه الفوضى. تذكرت كلمات المفكر الكبير د. يوسف زيدان التى قالها فى ندوة له فى قطر: «لا أتوقع نهضة ثقافية من أى نوع من الجيل السورى الحالى، فهو جيل قد شرخته ومزقته تجربة العنف». يبدو أن هذا الكلام ينطبق على مصر.
ساد العنف وقيمه المجتمع المصرى، وبالتأكيد لا أنكر أن الإسلاميين كانوا الطرف البادئ عندما سادت موضة محاصرة الدستورية للضغط على القضاة، وأزمة (لازم حازم) عندما كتب أحدهم: «مفيش حازم.. مفيش انتخابات»، وعندما ملئوا التحرير قبل إعلان الفائز بالرئاسة وقبل الإعلان الدستورى المشئوم، وعندما هاجموا المعتصمين عند الاتحادية.. بعد هذا صار كل طرف يفعل الشيء ذاته مكررًا أن البادى أظلم وأن الإسلاميين هم من استن هذه السنة. لكن متى تنتهى هذه الدائرة الشيطانية إذن؟.. تذكرت عبارة فى مجلة أطفال قديمة: «سوف نذهب لحرق معسكر الهنود، لنؤدبهم حتى لا يحرقوا معسكراتنا انتقامًا من حرقنا لمعسكرهم منذ شهر !».
ليكن.. سوف أبتعد عن هذا المستنقع الشائك، ولنناقش ظاهرة البذاءة.. ظاهرة تفشى متلازمة توريت فى المجتمع المصرى بشكل وبائى، والبذاءة بالطبع نوع من السنج اللفظية.. هناك جرائم تثبيت باللفظ، وهناك طعنات وهناك جرائم قتل.. هناك ذلك الاستعداد الكامن فى الجينات العربية للحرب الأهلية حتى على مستوى التعليق على مقال..
تكلمت من قبل أيام حكم مبارك عن مرض توريت، ودعنى أذكرك بقصته: فى العام 1884 وصف الطبيب الفرنسى (جيل دولا توريت) تسعة من المرضى يعانون مرضًا وراثيًا غريبًا يتكون من لازمة قهرية من التقلصات العضلية والسباب البذيء جدًا.. وقد وصف هذا المرض لدى الماركيزة (دى دامبريير) العجوز الوقور التى كانت تأتى بحركات غريبة بعضها قبيح جدًا، مع كثير من السباب، وقد بدأ المرض عندها منذ سن السابعة.. هناك شواهد تاريخية سابقة على وصف المرض ومنها رجل من النبلاء الفرنسيين – نسيت اسمه – كانوا يقيدون يديه خلف ظهره كى لا يقوم بحركات بذيئة بإصبعه فى حضرة لويس الرابع عشر ! أى أنه كان مصابًا بالمرض قبل أن يعرف الطب اسمه..
إن السباب البذيء فى كل مناسبة هو عرض مرضى يعرف باسم (كوبرولاليا)، ويمتاز بأنه يخرج من المريض تلقائيًا حتى لو لم يثر أعصابه أحد.. نفس الشيء ينطبق على الحركات القذرة باليد أو لمس العضو التناسلى باستمرار (كوبروبراكسيا).. وهناك النوع الثالث (كوبروجرافيا) وهو الولع بكتابة البذاءات خاصة على الجدران (أدخل أى دورة مياه عمومية واقرأ ما كتب خلف الباب لتعرف أن المرض منتشر).. هناك كذلك الولع بعرض الجسد العارى أمام أفراد الجنس الآخر لإثارة اشمئزازهم..
الأمثلة على البذاءة ومرض توريت كثيرة جدًا. مؤخرًا كان هناك خلاف بين الإعلامى د. باسم يوسف ورجل قانون شهير عالى الصوت. أحيانًا أختلف مع باسم، لكن لا أنكر أن نقده نظيف وشديد الذكاء، كما أنه لا يدمى غالبًا، باستثناء بعض التلميحات الجنسية التى لا أتحمس لها. ما حدث هو أن المعركة تحولت إلى حرب شرسة تتضمن كلامًا عن أسرة باسم وزوجته والبامبرز وحقائق يخلطها القانونى بأكاذيب.. فى مداخلة استغرقت عشر دقائق ذكر اسم أم باسم أو لفظة (أمك) عشرين مرة تقريبًا.. مع عشرات التلميحات وإذاعة رقم هاتف يفترض أنه هاتفها، مع طريقة يجيدها رجل القانون هى أن يوحى بأنه لا يقول كل ما يعرف.. ربنا أمر بالستر. بالطبع مع الكثير من الصراخ الذى يجيده لدرجة أن مذيع قناة الفراعين نفسه راح يرتجف ويقول بصوت خافت: «أنا ابنك عاوز أفهم منك». رجل القانون يتعامل مع الناس بطريقة ضباط أمن الدولة السابقين، فلديه سى دى لكل شخص، وكل إنسان لديه بالتأكيد فضائح أخلاقية وربما هو شاذ جنسيًا كذلك.. لا يصدقون ان الإنسان النظيف له وجود أصلاً. عندما فضل باسم تجاهل الهجوم فى الحلقة التالية، اعتبر القانونى أن هذا نصر جديد يضاف لأمجاد الشراسة والصوت العالى.
منذ متى يتم إقحام الأمهات فى الخلافات؟ هذه ليست مصر التى أعرفها بالتأكيد.
لا أحاول عمل نوع من التوازن، لكن كلا الطرفين يتعاملان بانفلات أعصاب والأخطاء تتراكم.. وماذا عن الشيخ الذى يقول (يا روح أمك) ويوزع صورًا عارية لـ (إلهام شاهين)؟.. والشيخ الذى يرى أن باسم يوسف مغر جدًا ويشبه ليلى علوى؟
هناك فى يوتيوب فيلم مقزز بذيء جدًا يظهر قادة المعارضة وجبهة الإنقاذ يرقصون على أنغام الراب.. مرض توريت يطل برأسه...
وماذا عن مظاهرة بعد منتصف الليل تقوم بها جماعة 6 إبريل لمحاصرة بيت وزير الداخلية لإلقاء... لا ليس المولوتوف.. بل لإلقاء الثياب الداخلية النسائية مع شعار (الداخلية عاهرة كل نظام)؟. هذا تصرف أقل من صورة 6 إبريل المثالية فى ذهنى بكثير..
قد يكون التظاهر فى المقطم من حقك.. لكن ماذا عن دعابة الخراف السخيفة؟. وماذا عن الاحتشاد أمام أبواب مقر الاخوان للمأمأة؟.. هل هذه طريقة معروفة للنضال؟.. وكيف تستطيع المأمأة أن تطرد الاخوان وتعيد مصر إلى العصر الحديث وتحل مشاكلنا وتقضى على البطالة وتحل أزمة السولار وتنهى الغلاء؟.. هل تعرف بما ذكرنى المشهد؟ بالمدرسة الابتدائى عندما كنا نحاصر طفلاً منا ونزفه مرددين: «حيعيط.. حيعيط !». طبعًا الكلام عن المقطم يطول لكن ليس مكانه هذا المقال..
منذ أيام رأيت قياديًا مهمًا فى جبهة الإنقاذ على شاشة الجزيرة يصيح فى عصبية: «يلعن مرسى والصندوق اللى جاب مرسى فى الأرض !». وهذا بدون مناسبة. بعدها عندما حصل حصار مدينة الإنتاج راح يتكلم عن أهمية الحوار مع الشباب الذى يحاصر البوابات.
سمفونية البذاءة.. رقصة العنف.. هذا هو البرنامج منذ فترة طويلة...
منذ يومين قال لى صديق قانط: «يبدو بالفعل أنه لايوجد حل سوى الحرب الأهلية.. فلتقم ولنتحمل العذاب بضع سنين أو نمت، وبعدها يسود الاستقرار ويبقى الطرف الأقوى.. لكن هل هم واثقون من أن الاخوان لن يكسبوا هذه الحرب فعلاً، وهم الطرف العقائدى الأكثر تنظيمًا؟...»
بالفعل لا أعتقد أن الحرب الأهلية فى مصلحة جبهة الإنقاذ والمعارضة بتاتًا. على الجميع أن يتوقفوا ويتفكروا قليلاً، ولنسم العنف باسمه والبلطجة باسمها بدلاً من تملق شيطان الغضب فى النفوس، فكلما قذف صبى ميكانيكى زجاجة مولوتوف على بناية حكومية ليستمتع بالنيران، كتبت الصحف: «الله أكبر !.. الثورة مستمرة.. أيام يناير تعود من جديد !». هل تذكرون أجواء مباراة الجزائر؟