دخلت الأصابع فى الخيال الشعبى المصرى فصارت هى المسيطرة على ما نعيشه منذ أن أعلنها محمد مرسى مهددا ومتوعدا، أصبعين أو ثلاثة فى الداخل، كما أشار إلى أن هناك أصبعا فى الخارج يحاول أن يعبث أيضا بالداخل.
تذكرت فيلما رائعا للمخرج الكبير كمال الشيخ اسمه «الأصابع» وربما كان هو الفيلم التسجيلى الوحيد الذى أخرجه كمال الشيخ المشهور بأفلام الجريمة والتشويق، شاهدت الفيلم فى إحدى اللجان قبل 20 عاما، رغم أن الشيخ أخرجه فى الستينيات، ولم أكن أدرى عنه شيئا حتى مطلع التسعينيات، وحسب ما أتذكر كانت الفكرة لكمال الملاخ وهو واحد من كبار الصحفيين والأثريين فى مصر، تناول المخرج الأصابع مثل محرك العرائس، وكيف يتحكم فى الدمى والكوافير ولاعب كرة السلة وعازفى البيانو والقانون وغازل النسيج وغيرها من الحرف التى تحتاج إلى أصابع مدربة.
تذكرت فيلم «الأصابع» وأنا أطوف بالمعرض الذى قدمه الفنان الرائع حلمى التونى المغرم بالمرأة والحصان، وما يجسده كل منهما فى الذاكرة الجمعية للشعب المصرى. الأستاذ الفنان الكبير كان صادقا وهو يمسك بأصابعه الفرشاة مبدعًا هذه اللوحات، ولكن كان لسان حاله يقول هل هذا وقت افتتاح معرض تشكيلى ومصر حائرة لا تدرى أين طريق الخلاص؟ هل لدى الناس مساحة لتذوق الفن أم أن كل وجوه الحياة بما فيها الفن يجب أن نعايشها وهى مغموسة بالثورة؟ وجد حلمى التونى أن أحد أسلحة المقاومة هى أن نعيش الحياة بتفاصيلها، أن نقاوم الفناء الذى تسعى إليه قوى الظلام بالحياة، والإبداع هو الذى يمنح الحياة حياة. البساطة فى التعبير، الاحتفاظ بالطفل داخل أعماق الفنان، البراءة، البهجة، الحنين لزمن بكر، الاقتصاد فى كل شىء، وقبل كل ذلك وبعده البصمة الخاصة التى تشعرك دائما أن هذا السحر الخاص وراءه فنان له توقيع ووقع ملىء بالدفء، هذا هو إحساسى بما رأيته من لوحات فى معرض حلمى التونى.
عندما أكتب عن فيلم وأقرأ عددا من تعليقات للقراء أجد بعضهم يقول ساخرا يا رايق البلد على شفا حرب أهلية، وأنت تفكر فى فيلم، الناس تبحث عن لقمة العيش ونحن نكتب عن مطرب أو أغنية أو لوحة. إنها المقاومة، إنه السلاح الذى يحافظ على الحياة، الإخوان لديهم عدوان المرأة والإبداع، يعتقدون أن كل الموبقات تنحصر فى شيئين امرأة سافرة وإبداع فيلم أو مسرحية أو أغنية لا تجد فيها الشروط التى وضعوها وفق قواعد صارمة، بحجة أن هذا هو الفن الشرعى وما دونه هو الكفر بعينه، المرأة تغضبهم، ولهذا لا تتعدى نظرتهم إليها سوى أنها مجرد جسد يحمل غواية.
قرأت العدد الأخير من مجلة «الكواكب» عن عبد الحليم، كان السؤال الذى تكرر أكثر من مرة هل كان يصلى؟ كم مرة اعتمر؟ هل كان يقرأ القرآن؟ الكل بدأ فى البحث عن وجه آخر لعبد الحليم، حتى تدخلات الأزهر وعدد من رجاله فى الاعتراض على أغانيه يشعرونك أن عبد الحليم تسامح، بل إنهم يؤكدون أن حليم نفسه بعد أن أدى العمرة أكثر من مرة صار يتراجع عن تقديم بعض كلمات مثل «يا ولدى قد مات شهيدا من مات على دين المحبوب»، فجعلها «فداء للمحبوب» حتى لا يتهم أنه من الممكن أن يخرج عن دينه لو أحب فتاة غير مسلمة، لا أتصور أن هناك شيئا من الصحة فى ذلك، عبد الحليم دائما ما كان يصطدم بتلك العقليات وربما آثر السلامة وقرر أن لا يغضبها، فاتفق مع الشاعر نزار قبانى على تغيير كلمة، ولكنه لم يقتنع أبدا بأفكارهم، والدليل أنه مثلاً غنى «على حسب وداد» المقطع الذى يقول فيه «لا ح أسلم بالمكتوب ولا ح ارضى أبات مغلوب» التى أغضبت المتزمتين، ولم يغير حرفا، كما أنه فى قصيدة «لست قلبى» رفض أن يعيد تسجيلها برغم أن الشيخ الغزالى المحسوب على التيار الإسلامى المستنير احتج على تعبير «قدر أحمق الخطى» وأصر عليها عبد الحليم.
إنه مثل جموع المصريين مؤمن بالله، ولكنه موقن أن الله لا ينظر سوى للأفئدة والصدور، ويعلم أن هذه الأغانى وغيرها لا تتحدى القدر ولا قضاء الله، ولكنها تتناول مشاعر، لم يأخذنا هذا الحديث بعيدا عن معرض حلمى التونى، إنه أحد توابع ما تعيشه مصر الآن وهى تبدع بأصابع من حرير، لتقهر الأصابع التى تسعى للفناء.