فى كل المهرجانات تظل العصمة بيد لجنة التحكيم، وتبقى مسؤولية المهرجان فى اختيار المحكمين، ليتحدد عن طريق توجهاتهم إلى مَن ينحازون، وعبرت لجنة تحكيم مهرجان الأقصر أن هناك توجها للسينما التقليدية فى بنائها، عندما منحت الجائزة الكبرى للفيلم التونسى «مانموتش» وجائزة لجنة التحكيم لفيلم «نيروبى نصف حياة»، وعلى سبيل «الطبطبة» فقط لا غير حصل «الخروج للنهار» لهالة لطفى على شهادة تقدير.
كان هذا الفيلم واحدا من أفلام قليلة منحتنا بصيصا من نور لسينما قادمة، تضع مصر فى المكانة التى تستحقها.
تفاصيل دقيقة لواقع الحياة الذى يتجاوز حدود الفقر إلى الانسحاق أمام القدر، ورغم ذلك ومهما اشتدت قتامة الصورة يبقى هناك انفراجة قادمة.
ما تراه على الشريط يتجاوز ما يمكن أن نطلق عليه الصدق، إنها الحياة التى تمر رتيبة على تلك الأسرة المكونة من أب عاجز مشلول غير قادر على التواصل مع الحياة، وأم تعمل ممرضة بالمستشفى صنعت حولها سياجا من البرودة فى المشاعر، وابنة لا تجد حتى بقايا الحياة لتعيش عليها.
الأب على السرير غير قادر على رعاية نفسه، الابنة تبدو أشد اقترابا للأب. الحوار شحيح يكاد تفلت منه بين الحين والآخر، مجرد شذرات هنا أو هناك، الصمت يسكن هذا البيت، ولكن بلاغة التعبير السينمائى هى الوجه الآخر للسكون. فى هذا البيت الصغير ترى مصر الآن، لا أتحدث عن مصر قبل أو بعد الثورة، ولكن مصر التى تعيش الحياة، بينما هى فى الواقع تموتها.
السرير كان هو البطل، والمرتبة الطبية الرخيصة نسبيا الكورية الصنع كانت هى الأمل الذى سعت الابنة لشرائها لأبيها، ولو بالتقسيط، وينتهى الأمر فى المشهد الأخير ونحن نرى الأم وهى تقوم يدويا بتنجيد المرتبة وتُخرج القطن العطن، بينما تسأل الابنة عن مكان دفن الأب. لم يجدوا لهم مكانا على الأرض، فهل يعثروا على مكان تحت الأرض.
الصورة القاتمة التى تنضح بالتلقائية فى الأداء تتجاوز الواقع إلى معنى الحقيقة، تذوب تماما على الشاشة كل المفردات السينمائية وكأنك لا تراها، كسرت المخرجة الحاجز الدرامى لتُقدم لنا قطعة من الحياة، ولهذا فإن الإضاءة تكاد تختفى تماما، ولا تشعر أنك بصدد ممثلين أمام الكاميرا، وتلمس ذلك بقوة فى أداء الممثلات دنيا ماهر الابنة، وسلمى النجار الأم، بينهما حالة من التناغم فى الأداء، وكأنها مباراة تنس طاولة، تتحرك فيها الكرة برشاقة ولا تسقط أبدا.. الأب أحمد الشرف لم ينطق بكلمة واحدة، ولكن كانت عيناه تصرخ بالاستسلام للقدر الوشيك القادم لا محالة، واستوقفتنى ممثلة قدمت مشهدا رائعا فى الفيلم وهى دعاء عريقات.
المنزل هو الساحة الرئيسية للأحداث، يبدو قطعة مصرية تشم فيه رائحة الناس، نتابع الفتاة وهى تُمسك بالقليل المتاح لها، تحاول أن تتزين عند الكوافير، إنها لا ترتدى الحجاب، وعلى الفور وفى الميكروباص تعتقد جارتها فى المقعد أنها مسيحية، هذه الفتاة تؤدى دورها، دعاء عريقات لم تتزوج بعد وتعانى من حالة كبت أدت بها إلى نوع من الهلاوس، فتذهب إلى الشيوخ لإخراج الجن، وعندما تبوء محاولاتها بالفشل تستجير بالقسيس، إنها الطبيعة المصرية العميقة فى العلاقة مع الأديان.
البطلة مرتبطة بشاب لا نراه، ونكتشف أنه يتهرب منها، اختيارات عبقرية لأماكن التصوير، الوصول للحدود الدنيا فى استخدام الإضاءة. الأماكن التى تجرى فيها الأحداث تكاد تتحول من مساحة جغرافية إلى ملامح خاصة لكل من وما تراه على الشاشة.
لم تستخدم المخرجة موسيقى تصويرية، لأن الشاشة بتفاصيلها كانت تكفى، فما الذى من الممكن للموسيقى أن تلعبه، ثم إنها فى سياق هذا الفيلم تحديدا من الممكن أن تُخرجنا عن الإحساس الدرامى، ولكننا نتعايش فى الأحداث مع أغنية لأم كلثوم «أنا وأنت ظلمنا الحب»، ودويتو غنائى «طال انتظارى» لمحمد عبد الوهاب وليلى مراد.
الحكاية التى يرويها الفيلم تبدو متكررة آلاف وربما ملايين المرات، ولهذا ليست هناك حكاية، ولكن حالة نعيشها على مدى ساعة ونصف الساعة على الشاشة.
هل بطلة الفيلم تستسلم للواقع أم تتحايل عليه. لا يقدم الشريط موقفا ثوريا نتبناه أو نرفضه ولا يعنيه أيضا أن توافق أنت على هذا المنطق الذى تحمله الشخصيات، ليس هذا هو هدف الفيلم، ولكننا فقط نرى مصر ومصريين.
سينما لا تخضع إلا لصدق الإحساس، حقيقة الحياة هى تلك التى عشناها على الشريط السينمائى، ورغم ذلك كان للجنة التحكيم ونصف عددها من المصريين رأى آخر ومنحوه جائزة على سبيل «الطبطبة»!!