عرضت على القراء فى الأسابيع الثلاثة الماضية كتاب فيلدمان «سقوط وصعود الدولة الإسلامية» الذى صدر عن مجلس العلاقات الخارجية الأمريكى، وهو مؤسسة استشارات أمريكية مؤثرة من النوع المسمى «Think-Tank» تسعى لأن تكون مصدر معرفة صناع القرار بالقضايا الحيوية لأمريكا. كما أنه كتاب بدأت فكرته كما يقول مؤلفه فى «القصر الجمهورى» ببغداد، حينما كان المؤلف مستشارا لبريمر عقب الغزو الأمريكى للعراق، فيا لها من سياقات لبداية ضمن مشروع استعمارى واضح. ثم نضجت رؤاه وتبلورت مقولاته فى أروقة مؤسسات المحافظين الجدد من ناحية، ومراكز البحث الجامعية من ناحية أخرى. فنحن إذن بإزاء وثيقة تعتمد على المعرفة والبحث الأكاديمى وتسخرهما فى خدمة أهداف سياسية محددة. لأن من متطلبات الدولة الحديثة بناء قراراتها على أسس من الدراسة الرصينة، كى تحقق مصالحها بكفاءة وفاعلية. ولا شك أن هناك جهدا علميا مبذولا فى بناء أطروحة كتاب فيلدمان، وجهدا ملحوظا فى تسويغ ما خلصت إليه الدراسة من توصيات، ولكنه من نوع الحق الذى يراد به باطل. لأنه يخفى فى تضاعيف توصياته التى تنبع كلها من حرص على مصلحة أمريكا ودورها فى المنطقة، حرص أكبر على مصلحة دولة الاستيطان الصهيونى فى فلسطين، دون أن يرد فى الكتاب أى ذكر لذلك.
ولأن مؤلف الكتاب تلميذ نجيب للثعلب الصهيونى برنارد لويس، فإنه يعرف حقيقة عمل الآليات التحتية لمؤسسة السلطة الأمريكية، ولحركية صناعة القرار فى دهاليزها، وكما تعلم اليهود منذ نعومة أظافرهم درس «سالومى» أو «شلوميت» حسب اسمها العبرانى، والتى استخدمت الإغراء، ورقصة الخُمُر (جمع خمار) السبعة للحصول من هيرود الحاكم الجبار على رأس يوحنا المعمدان على طبق من الفضة، من أجل أمها. ها هو نوح فيلدمان يسعى إلى الحصول على رأس العالم العربى، بل والإسلامى كله برقصته الأكاديمية تلك على طبق من الفضة، ومن أجل أمه هو الآخر كيهودى صهيونى، كى يقدمه لقمة سائغة للدولة العبرية. ولكن قبل أن نحلل أهداف رقصته أمام صناع القرار الأمريكى، علينا أن نقدم إلى القراء خلاصات كتابه الخطير ذاك. إذ ينتهى كتاب فيلدمان بخاتمة بعنوان «الإسلامية والمؤسسات وحكم القانون» يستهلها بطرح سؤال مهم عن مدى قدرة هؤلاء الإسلاميين حال وصولهم إلى السلطة على تحقيق حكم القانون.
ويبدأ إجابته بالحالة الإيرانية التى برهنت على أن السلطة التى تحكم باسم الإسلام يمكن أن تتسم بالفساد الدستورى، كأى حكومة مدنية، وأن تتمتع مثلها بكراهية شعبها لعجزها عن تحقيق العدالة السياسية التى استخدمتها سبيلا للحصول على تأييده والصعود إلى السلطة. لكنه يرد على ذلك بأنه لو استطاع الإسلاميون تحقيق وعودهم بالعدالة السياسية، فإنه من المحتمل أن ينتشر حكم الشريعة فى المنطقة العربية برمتها، بل وفى العالم الإسلامى من ورائها. ويرى أن ذلك يعتمد على قدرة الإسلاميين على خلق مؤسسات جديدة تتسم بالتفرد والخصوصية والأصالة، والقدرة على تجسيد المثل الإسلامية فى الواقع وبث الحياة فيها. ويقترح أن يتم ذلك عن طريق إنشاء نظام تشريعى وقضائى جديد يعتمد على الشريعة بعد مزجها ببعض الديمقراطية، فى شكل سلطة للشريعة تعلو على سلطة التشريع، وتراقب كل ما يصدر عنها من قوانين، ويكون من حقها تمريرها أو إعادتها إلى تلك السلطة التشريعية لتعديلها كى تتفق مع شرع الله. (ألا يذكرنا هذا بالمادة 219 فى الدستور الإخوانى ودورها فى تقييد تفسير المادة الثانية وفهمها لمبادئ الشريعة الإسلامية).
ويقترح فيلدمان أن تخضع لهذه السلطة التى سيوكل إليها التيقن من مطابقة أى تشريع «لأدلة الشريعة الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة فى مذاهب أهل السنة والجماعة» السلطة التنفيذية هى الأخرى كالسلطتين التشريعية والقضائية، لأن هذا وحده سيحقق حكم الشرع - القانون، ويعلى سلطته فوق كل السلطات. لكنه يدرك أن حدوث هذا بالضبط فى إيران لم يؤدِ إلى سيادة حكم القانون، وإنما إلى نوع جديد من الاستبداد. كما أن ما يسميها أحلام «بول وولفوفيتز وأحمد الجلبى» الثورية لم تجلب الاستقرار ولا حكم القانون للعراق، بل نجم عنها تفشى الفوضى وعدم الاستقرار. وأن الحل الوحيد فى رأيه، وقد استوعب درس التجربة العراقية المؤلم، هو التدرج فى التغييرات الدستورية، والعمل على خلق بنية دستورية جديدة، تستفيد من الماضى، لتصوغ رؤيتها للحاضر وفق نوع من العدالة السياسية. ويرى أنه من الضرورى أن يحرص الإسلاميون على سلامة مؤسسة الدولة، ويستولون عليها (بالتمكين)، ثم يشحنونها برؤيتهم الإسلامية من الداخل، ويوجهونها لتحقيق الشريعة. بصورة لا بد أن تؤدى إلى تغيير السلطة القضائية من الداخل، (أليس هذا ما يفعله نائب محمد مرسى العام؟)، والأهم تغيير الثقافة القضائية ذاتها كما حدث فى باكستان حيث يصبح مرجعها هو الشريعة، لا السلطة التنفيذية.
وبما أنه من المستحيل العودة إلى الأسس التشريعية والدستورية التى قامت عليها الدولة الإسلامية القديمة، فإنه يقترح أن يقوم الحكم الإسلامى الجديد على استخدام المؤسسات الراهنة فى سن تشريعات جديدة. (هل كان منح مجلس الشورى سلطة التشريع مجرد صدفة إذن؟) يعمل من خلالها الحكم الجديد على تحويل الدولة من النظام الفاسد القديم إلى نظام يعتمد على الشريعة. ويربط هذا بضرورة احترام مؤسسات الدولة، وأن يحرص الجميع على استمرارها وفاعليتها، ويشعرون بأن وجودها فى صالحهم، وإلا تفشت الفوضى، واختفى حكم القانون، بل ويطالب بأن تربط الولايات المتحدة أى معونات تقدمها إلى تلك البلدان بمدى احترامها للقوانين والتشريعات الجديدة تلك. وأن تلعب دورا إضافيا فى ترسيخها عبر ما يسميه الاعتراف الأمريكى بتلك الإصلاحات، والثناء المحسوب عليها، بطريقة مدروسة تعزز مكانتها، بدلا من أن تنال من مصداقيتها.
هذه هى الخلاصة التى أنهى بها فيلدمان كتابه، وهى خلاصة نجد الكثير من ملامحها فى ما تسفر عنه تصرفات حكم الإخوان فى مصر، وكأننا فى تأملنا لما يدور نشاهد التطبيق الفعلى لتلك التوصيات التى بلورها فى كتابه قبل اندلاع الثورة المصرية، أو على الأقل استلهاما واضحا لها، بل إن معرفة ما جاء به نوح فيلدمان فى كتابه، ودور هذا الكتاب كوثيقة صادرة عن مجلس العلاقات الخارجية الأمريكى فى تحديد السياسات الأمريكية إزاء ما يدور فى مصر، تساعدنا فى تعليل الكثير من السياسات الأمريكية التى يوصى الكتاب بها. إذ نستطيع أن نفهم على ضوء تحليلاته عن أهمية بناء مؤسسة قضائية جديدة سر عصف حكومة الإخوان بالقضاء الحالى، كى تمهد الطريق أمام القضاء الجديد الذى يوصى به على طريقة بريمر فى العراق. وسر غض أمريكا الطرف عن انتهاكات مرسى للدستور ولحقوق مواطنيه ولحرية الصحافة، بل ودفاع فيلدمان نفسه فى الصحف الأمريكية عن إعلانه الدستورى المشؤوم، بل إن حديثه عن أهمية احتذاء النموذج التشريعى والقضائى الباكستانى، يكشف لنا عن سر نقل آن باترسون، السفيرة الأمريكية فى باكستان، إلى مصر بعد الثورة. وهى السفيرة التى استقبلت الإخوان قبل تقديم أوراق اعتمادها إلى المجلس العسكرى بحفاوة بالغة، وعمل جمال الغيطانى ترجمانا خاصا لها حينما صحبها فى جولة مصورة فى القاهرة القديمة. ليس فقط لأن آن باترسون ذات تاريخ مشهود فى الأمم المتحدة إبان حرب احتلال العراق، ودور نشيط فى باكستان إبان التخلص من بنازير بوتو، ولكن أيضا لأنها أشرفت على هذه التحولات التشريعية والقضائية الباكستانية. وكان لنقلها إلى القاهرة، بعد بلائها الحسن فى باكستان، دوره المحورى فى ما حدث فيها من تحولات أوصلت الإخوان إلى الحكم، وأسهمت فى تجاهل أمريكا للغضب الشعبى من الإجهاز على الثورة بعمليات التمكين الإخوانية.
وتطرح علينا هذه الخلاصة سؤالا أساسيا: لماذا يحرص يهودى صهيونى من تلاميذ برنارد لويس (أشد الكارهين للعرب وللإسلام) على تطبيق الشريعة إلى هذا الحد؟ ولماذا يبذل هذا الجهد فى بلورة شروط نجاحها وضماناته؟ ولماذا يطالب الولايات المتحدة بربط المعونات بصرامة تطبيقها، وهو ما لا يحلم به عتاة السلفيين؟ الجواب بوضوح أن أسلمة الحكم فى المنطقة هى السبيل المضمون للإجهاز على كل ما أثارته الثورة من أحلام وطموحات. وهى روشتة الثورة المضادة ليس فقط للإجهاز على الثورة مرة وإلى الأبد، ولكن أيضا للحيلولة دون انبثاق موجات جديدة لها، بسبب القضاء على أهداف موجتها الأولى. فقد أصبحت الثورة المضادة، كما كتبت أكثر من مرة، علما من أرقى العلوم الإنسانية والاجتماعية. تسخر دول المركز الكبرى كل الإمكانيات البحثية له، وتنفق عليه بسخاء كى تحقق عبره مصالحها بأكفأ السبل وأقل الخسائر الممكنة.
فالوصول بحكومات ما يسمى المشروع الإسلامى، أو الدولة الإسلامية كما يسميها فيلدمان، إلى الحكم فى المنطقة العربية يحقق أهم أهداف الثورة المضادة بضربة واحدة. إذ يجهز أولا على أى أمل فى كيان وطنى مستقل الإرادة والمشروع. وهو الأمل الذى أيقظته تتابعات الربيع العربى فى العامين الماضيين. لأن الأساس الذى يقوم عليه المشروع المسمى (الإسلامى) ليس أساسا وطنيا (بأمارة طظ فى مصر الشهيرة)، وإنما أساس دينى هلامى يرجئ فكرة الاستقلال الوطنى، من أجل حلم مستحيل يسمى الخلافة. دون أن يعى استحالة هذا الحلم فى عالم تقبع فيه كل الدول العربية والإسلامية فى قاع هوامش نظامه الدولى على صعد التنمية والقوة الاقتصادية والسياسية، ناهيك عن العسكرية. كما أنه يقضى ثانيا على الفكرة العربية التى تعد أيديولوجيا أخطر أعداء المشروع الصهيونى والاستعمارى فى المنطقة. والإجهاز على الفكرة العربية مطلب أساسى لتحقيق مشروع الشرق الأوسط الجديد الذى تحتل فيه دولة الاستيطان الصهيونى مكانا محوريا فى المنطقة، لن يتحقق طالما ما زلنا نسميها المنطقة العربية أو العالم العربى، وطالما ظلت بنية المشاعر الأساسية فيها عربية الهوى.
أما ثالثا فإن صعود ما يدعوه فيلدمان بالدولة الإسلامية إلى الحكم يبقى المنطقة كلها تابعة ومشغولة بسفاسف تطبيقات الشريعة، بعيدا عن قضايا الاستقلال (وهو مربط الفرس فى كل تقدم)، ناهيك عن التضامن العربى أو حتى التنسيق الاقتصادى والسياسى بين شعوب المنطقة. كما أن إعادة تعريف دول المنطقة لنفسها على أساس دينى، لا يكرس الفرقة بين شعوبها فحسب، ويثير الصراعات الداخلية بين طوائفها كما حدث فى العراق، وقبله فى لبنان، ويدور الآن فى سوريا، كى تظل فى حضيض النظام العالمى الواحد وهوامشه. ولكنه أيضا يعيد توجيه البوصلة السياسية بعيدا عن الاستقلال والتقدم، وخلق أعداء وهميين (الشيعة، الأقباط، العلمانيين) من أجل التغاضى عن العدو الحقيقى والسكوت عنه. وعلاوة على هذا كله يمنح الأساس البغيض الذى ينهض عليه المشروع الصهيونى شرعيته. بصورة لا يصبح معها هذا الأساس استثناء استعماريا استيطانيا مرفوضا، وإنما القاعدة التى تنهض عليها شرعية كل دول المنطقة وهويتها.
لهذا كله لم يكن غريبا أن يكتب فيلدمان فى أكثر الصحف الأمريكية تأثيرا مدافعا عن قرارات محمد مرسى الخرقاء. وكان طبيعيا أن يدعم هنرى كيسنجر فى حديثه الأخير فى 9 مارس 2013 أمام مجلس العلاقات الخارجية الأمريكى الذى صدر عنه الكتاب، أطروحات هذا الكتاب، وهو يتوقع معركة بين الجيش والإخوان. لا بالتنبؤ بانتصار الإخوان فى تلك المعركة فحسب، ولكن بدعوة أمريكا إلى استخدام نفوذها كى تكون هذه هى النتيجة النهائية للمعركة، لأنها النتيجة التى تخدم الأجندة الأمريكية والمشروع الاستيطانى الصهيونى دون شك.