من يعرف أحمد زكى يستطيع أن يدرك أنه كان يكتمل فقط أمام الكاميرا.. أحمد قبل وبعد التصوير حروف غير متتابعة لا تستطيع أن تتبين منها شيئا، فهى لا تشير إلى كلمة محددة ولا تشى بمعنى ظاهر أو كامن هو القائل عن نفسه أنا بعيد عن الاستوديو مجرد «شخبطة ع الحيط»، لهذا فأنت لا تستطيع أن تُطل على أحمد وتراه على حقيقته إلا وهو مسكون بحالة إبداعية تحيله إلى حقيقته.. إنه الصورة فى الحياة والواقع أمام الكاميرا، كان أرسطو يقول لتلاميذه تكلم حتى أراك أما أحمد فأنت تقول له قف أمام الكاميرا حتى أراك.
هذا النوع الاستثنائى من الفنانين يتجاوزون بقدرتهم الإبداعية حدود مساحات عقلهم الواعى فى التخطيط والتفكير، ولهذا عندما يتدخل الوعى المباشر فى اختياراتهم يتراجعون خطوات عما أنجزوه بعقلهم اللا واعى، كلما سيطر عليه نداؤه الداخلى اقترب من الحقيقة وأمسك الشمس بيديه.. هم لا يدرسون الشخصية الدرامية التى يشخصونها بمنطق الورقة والقلم، لكنهم يعيشون معها أو بتعبير أدق هى تعيش داخلهم فى أثناء التصوير وأحيانا تظل لها الكلمة العليا بعد انتهاء التصوير.. كلما تعمقت هذه الشخصية فى خيالهم يحدث نوع من التوافق فى المشاعر، التفاصيل الخاصة تُصبح هى تفاصيلهم ويصلون من خلالها إلى مرحلة التوحد.. قرأت أن ماريون كوتيار الممثلة الفرنسية التى حصلت على أوسكار أفضل ممثلة لأدائها دور المطربة الأسطورة أديث بياف فى فيلم «الحياة الوردية»، سألوها عن أسلوبها فى التقمص قالت إنها ظلت عدة أشهر وهى تعيش مثل بياف لم تستطع أن تدخل فى أحاسيس أى شخصية أخرى حتى ماريون لم تعد ماريون. أحمد زكى فى العديد من أفلامه عاش مثل هذه المواقف.. لقد أصيب بآلام حادة فى القولون وشخص الطبيب تلك الآلام بأنها مشكلات صحية لم يعان منها أحمد زكى، ولكنها آلام هشام ضابط أمن الدولة الذى أدى أحمد زكى دوره فى فيلم «زوجة رجل مهم»، كان هذا الضابط يتحرك على لسعات النيران بين فقدانه لمنصبه وعشقه للسلطة.. عانى أحمد زكى كثيرا على المستوى العضوى والنفسى وهو يؤدى هذه الشخصية فانتقلت إليه أعراضها فأصابته، ولم يكن فقط «زوجة رجل مهم» هو الحالة الاستثنائية، بل هناك العديد من الشخصيات الأخرى فى أفلام مثل «أرض الخوف»، و«الهروب»، و«الحب فوق هضبة الهرم»، و«موعد على العشاء»، و«طائر على الطريق»، و«البرىء»، و«أحلام هند وكاميليا» وغيرها وغيرها، كان عاطف الطيب يقول لى إنه دائما ما يحلم بأن يمنحه الممثل درجة من التعبير أمام الكاميرا، ولكن أحمد زكى يتجاوز من فرط صدقه كل أحلامه، كان الوحيد القادر على إدهاشه رغم أنه المخرج.
فى فيلم حليم عندما أصيب قبل أن يبدأ التصوير بسرطان الرئة وبدأ يعانى الضعف والهزال كان يقول أنا مريض وأؤدى دور مريض، ورغم أن هذا الأمر لم يكن فى صالح الشخصية لأن المريض يحتاج إلى إنسان فى كامل صحته لتقمص الدور، ولكن هذه حكاية أخرى، كان أحمد فى كل مراحل مرضه ينظر إلى المرآة ويبحث عن أوجه الشبه بينه وبين شخصيات درامية كان يحلم بها، فصارت تقترب منه على المستوى الشكلى ويرى الوجه الآخر للمرض، محققا عن طريقه أحلامه الفنية المستحيلة!!
أحمد زكى يلعب إبداعيا فى مساحة أخرى ليست هى تلك التى ترى فيها أغلب النجوم. إنه فنان التشخيص الأول فى السينما العربية وبلا منازع.. نعم لدينا نجوم قادرون على الأداء المبهر ويمسكون بالتفاصيل الخاصة بالشخصية ولديهم كاريزما وتواصل وجماهيرية، أذكر مثلا نور الشريف، محمود عبد العزيز، محمود يسن، ومنهم من حقق إيرادات أعلى من أحمد زكى فى أفلامهم مثل عادل إمام، إلا أن أحمد زكى فى تاريخنا السينمائى يحلق فى سماء أخرى يصعب مقارنته بالآخرين حتى إن نور الشريف كان يقول فى فن الأداء أنا أستحق 7 من 10، وأحمد زكى هو الوحيد من جيلنا الذى أمنحه بلا تردد 10 من 10.
إنه الممثل الأول والأهم والأروع بين نجوم التمثيل بشهادة العديد من زملائه.. «الألفة» فى حياته ولا يزال فى نفس المكانة بعد رحيله فهو الوحيد الذى أمسك الشمس!!