يفتقد الدكتور مرسى واحدة من أهم المهارات التى يجب أن يتمكن منها ويجيد الاستفادة منها أى زعيم ناجح، أو قائد أو رئيس أو مدير أو حتى ملاحظ فى ورشة، وهى القدرة على إقناع غالبية جمهوره وناسه وجذبهم إليه شخصيا، وإقناعهم بأفكاره وإلهامهم بمواقف تصبّ فى صالح خططه وتصوراته، ثم حثّهم على اتخاذ ما من شأنه تعزيز أهدافه وفى ذات الوقت تحصينهم من الوقوع تحت تأثير خصومه ومنافسيه والظروف غير المواتية.
وهو يجهل طبيعة الشعب المصرى، الذى هو جمهوره الأول والأهم، ويبدو أنه لا يعرف إحدى الحقائق التى دخلت فى باب البديهيات، وهى القدرة الفذة لهذا الشعب على السخرية، فإذا به يوفّر لهم، بنفسه وطواعية، مادة خصبة يعجنون منها النكت والدعابات التى تضرب أول ما تضرب فيما يتوهم الدكتور مرسى أنه يُشيِّده!
ولكنها ليست سخرية لمجرد التسلية، لأن فى كثير منها نظرا عميقا يرى ما تحت الغلالة الرقيقة التى يتوهم حكام هذه الأيام أنها تخفى مراميهم.
جولة سريعة على الفيس بوك تفاجئك بقدر هائل من النكت، بدءا من التعليقات على تصريحه الأول عن أهله وعشيرته وحتى حديث الأصابع، ولو كان هناك فى جوار الدكتور مرسى من يفهمها حق فهمها لتغير خطابه إلى الناحية الأخرى حيث الصواب.
ويبدو أن الدكتور مرسى ومن معه يجهلون، أو لعلهم يتناسون، أن الحكم الرومانى فى مصر منذ نحو ألفى عام، حرم المصريين من ممارسة مهنة المحاماة لأنهم كانوا لا يكفون عن السخرية وإلقاء الدعابات أثناء مرافعاتهم مما كان يبدد جو الوقار المفترَض أن يحيط بأجواء المحكمة.
وإذا كان توجيه اللوم غير جائز لشخص على تعطله من المواهب، فإن النقد لازم لمن رشحوه لما ليس أهلا له، لأنهم أثبتوا بوسيلة الإيضاح هذه أنهم أعجز عن اللعب فى بحر السياسة العميق الذى يعجّ بالمفترس ويموج بالعواصف والرعود.
كانت رؤيتهم بهذه السذاجة: أن يضعوا فى القصر الرئاسى ممثلا لهم سامعا مطيعا لأوامرهم، وأن يعبثوا ما شاء لهم العبث بتفصيل دستور على مقاسهم مقيدا لغيرهم، وأن يشكلوا برلمانا طوع بنانهم، وأن يشوهوا صورة القضاة ويسطوا على صلاحياتهم ويعينوا نائبا عاما يتستر على جرائمهم ومجرميهم، ويكون سيفا مسلطا على خصومهم السياسيين ومنافسيهم فى البيزنس، وأن يضعوا زلماتهم على كراسى إدارات التليفزيون والصحف، وأن يؤسسوا ميليشيا من بسطاء قواعدهم وكوادرهم ويخفوا عنهم المخططات الحقيقية، ويشحنوهم عاطفيا ووجدانيا بأنهم حماة الإسلام ضد الكفار، ويدربوهم على استخدام العضلات فى تأديب المعارضين، ووصل الأمر إلى حد العدوان على كرامة المرأة والاعتداء الجنسى على الرجال وفنون شتى من التعذيب، بل والقتل، واستخدام المساجد سلخانات فى مهمتهم، وأن يخترعوا كتائب إليكترونية تتخصص فى إرهاب كل صاحب رأى معارض ليس بالرد عليه ومناقشة أفكاره بالحجة وإنما بالتطاول والإهانة والسباب المقذع..إلخ إلخ
وكما ترى فهى خطة صبيانية، برغم ما فيها من توحش وتحلل من روادع الحضارة والدين، لأنها تتعامل بالانطلاق من الصورة الفوتوغرافية الساكنة الخالية من الحياة، التى هى تجميد لمجرد لحظة عابرة اجتزأتها الكاميرا من صخب متحرك، وتتغاضى عن أن الواقع حى دائب التغير وأنه من الوارد دائما أن يفاجئ بغير المتوقع!
لقد افترضوا، مثلا، ودونما منطق ولا دليل، أن مشهد الملايين التى خرجت تواجه بطش الشرطة فى عز جبروتها وصمدت حتى أطاحت بمبارك، هو مجرد استعراض لمرة واحدة فى عمر البلاد وأنه غير قابل للتكرار مرة أخرى! وتوهموا أن ممارسة القمع ضد المعارضة والمغالاة إلى حد اغتيال بعض القيادات البارزة سوف يرهب الجموع ويلجئهم إلى بيوتهم!
وبرغم أن الأحداث كانت تثبت يوميا خطأ هذه التصورات، إلا أن الدكتور مرسى وجماعته لا يزالون مستمرين على نهجهم الافتراضى وكأنهم صاروا أسرى للقصور الذاتى، وكأنهم لا يملكون التحكم فى مسار خطواتهم وإيقاعها، فصارت رؤية صاحب القرار لا تتعدى ما تحت قدمه ولا ترى إلا أحداث اليوم، ولم يكترث أحد منهم إلى زيادة الهوة التى باعدت بينهم وبين نقطة البدء: غداة إجبار مبارك على مغادرة القصر الرئاسى، عندما كانت أحلام الشعب وأمنياته تحلق فى السماء، وكانت الهتافات تدوى بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، فإذا بها تتهاوى تحت حكم الإخوان وممثلهم فى الرئاسة إلى أزمات تضرب فى كل حاجة من حاجات الناس، وتحبط كل أمل، ولا تدع مجالا إلا اللجوء إلى التفكير فى تصحيح الخطأ التاريخى الذى ترتب عليه أن يصل ممثل للإخوان إلى الحكم.
ألا يكفى ما أصاب الوحدة الوطنية من تخريب؟! فقد ذكر تقرير صحفى نشرته «اليوم السابع» أن عدد الأقباط الذين هاجروا مؤخرا وصل إلى حد مخيف، ففى جورجيا، التى شهدت أكبر هجرة جماعية للأقباط، وصل الرقم إلى 83 ألف قبطى هاجروا فى 14 شهرا فقط لا غير، وأن الحجوزات سوف تصل بالرقم إلى 170 ألفا مع نهاية العام!
وأما العنف والعنف المضاد، وهو مدان فى كل الأحوال ويجب التصدى لكل من يمارسه ومن يدعو له، فقد أوصل البلاد إلى ما لم تشهده قط فى تاريخها، بعد أن جرى استخدام السلاح الذى لم يتعرف عليه المصريون قبل ذلك إلا فى السينما! وبرغم فداحة الكارثة، فإن بعض فلاسفة الإخوان لا يهمهم إلا إبراء ذمة الجماعة وإعفاء الرئاسة والحكومة من المسؤولية، بل يتباكون على أن هذا العنف ليس موجها ضد السلطة ولكنه موجه ضد فصيل آخر فى المجتمع! وكأنه صار على عموم المواطنين واجب حماية هذا الفصيل من العنف، برغم أن هذا الفصيل هو الذى جلبه إلى البلاد وأعد عدته وجهز ميليشياته، كما أنه لا يزال يتمسك به سلاحا، إضافة إلى انتهاج هذا الفصيل الملائكى سياسة إغلاق كل مسارب الخلاص الآمن حتى إذا انتهج الضحايا سكة القضاء!
أين الدكتور مرسى من تصريحات بعض قادة جماعته وهم يصرحون بالفم المليان مهددين الشعب المصرى كله وليس فقط المعارضين؟ قال أحدهم: «لو لم يتدخل الجيش لحمايتنا، سوف نستدعى جيشنا ونحاصر الحدود المصرية، ولن يأمن مصرى واحد فى منزله.»!
هل يرى فلاسفة الجماعة أن تظاهر الشباب الرافضين للجماعة أخطر على أمن البلاد ومصالحها من هذه التصريحات التى يطلقها مشاركون فى مطبخ الحكم؟
ألا يرى الدكتور مرسى أن من صميم مسؤولياته التى حلف اليمين على أن يقوم بها خير قيام أن يتصدى لمثل هذه الدعوات وأن يقوم بواجبه فى إعمال القانون مع من ينادى بها؟ وهل يعتقد الدكتور مرسى أن الشعب سوف يأخذ كلامه بجدية عندما يتجاهل كل الأخطار التى تحيق بالبلاد من جراء سياسات يتحمل مسؤولياتها رسميا، بل ويغض الطرف عن أصابع أهله وعشيرته ويهدد بأنه سوف يفعلها؟ لقد انهمرت آلاف النكت تتسابق فى تفسير الفعلة المتوقعة!!