فتح باب الحمام إلا قليلا وأطل برأسه الصغير من الباب وقد تغضنت كقنديل البحر من فرط الوقوف أسفل الدش، ثم صاح «شورت وأندر وير يا بابا».
كان بابا منهمكًا فى قراءة النشرة الداخلية لدواء السكر الجديد الذى كتبه له الطبيب، لم يفهم شيئًا سوى ضرورة الاحتفاظ بقطعة من الحلوى فى جيبه لمواجهة أى هبوط مفاجئ قد يسبّبه الدواء.
كان يكرر بشكل لا إرادى وهو يقلّب الدولاب «شورت وأندر وير يا بابا.. شورت وأندر وير يا بابا»، أخرجهما ومررهما عبر الباب لابنه، الْتقطهما الابن ثم صاح من الداخل «الاتنين أندر وير يا بابا».
كيف يشرح لطفله أنه قضى عمره يسميه «كلوت»، وأنه كان يسهل تمييزه من بين كل أنواع الملابس فى العالم، بالأستك الذى انحسرت عنه خياطة التدكيكة أو بمنفذ الفخذين الذى ترهّل وصار يتكوّم بسهولة تحت الجينز، بلون واحد لا يتغير، فإذا ما خرج عن الأبيض صار الأمر فيه «إنّ»، كانت الألوان والأشكال التى تخرج عن المألوف من نصيب الغوغاء والسوقة، إذ كانوا يرتدون المايوهات الرخيصة كبديل عن الملابس الداخلية، اليوم انقلبت الآية وصار المتمسّك بالأبيض القطنى ساذجًا أو مغفّلًا خارج سياق الزمن أو على أدنى تقدير «فلّاح».
أمام الدولاب كان يحاول أن يقيس قدراته على التمييز بين الأندر وير والشورت، قال لنفسه كل شىء تغيّر، شريط عمرو دياب الجديد أصبح ألبوم عمرو الأخْرانى، والصديرى أصبح «فيست»، والكومودينو أصبح «كومود»، والشفاطة أصبحت كلمة تثير الاشمئزاز بعد أن كانت علامة العز والتميّز فى مراهقته.. أصبح اسمها الآن «شاليمو»، صايع أصبحت أخيرًا كلمة مدح، لكنه يؤمن أنها ربّت أجيالًا كانت على وشك الانحراف، أجيالًا انصلب عودها خوفًا من أن تلقى هذا المصير «صايع»، أى قسوة الآن فى كلمة «نوتى» وما المرجو من رجل يكبر، وهو يتفادى أن يكون «نوتى»؟
«إنجز يا بابا»
صاح الولد من الحمام، بينما الأب مستغرق فى خيالاته، قائلًا فى سرّه «يخرب بيت بابا يا شيخ»، أمسك بطرف شورت مكتوب عليه «أديداس»، على أيامه، من المؤكد أن أديداس تعنى «شورت»، لكن لا شىء مضمون الآن، فهو يذكر جيدًا أن آخر طقم ملابس داخلية اشترته له زوجته كان مكتوبًا عليه «كونكريت»، بالضبط مثل الجاكيت الفخم الذى يذهب به إلى الاجتماعات المهمة، أين أيام مثلث الجيل؟ أين أيام كانت المثلثات هى «النستو»؟ اليوم كل ما يراه أمامه تنويعات على تيمة النستو، لكنها هى تحديدًا اختفت بالضبط مثلما أصبح كل حذاء رياضى «كوتشى» بينما لا كوتشى حقيقى فى السوق.
نحن فى زمن المسخ على رأى وحيد حامد فى «يعقوبيان»، قال لنفسه ثم فكّر «ربما كان زمنى أنا هو زمن المسخ»، أنا الذى أضعت مراهقتى فى تأمل الكشكول السلك المزيّن بصورة سليفستر ستالونى، وأضعت ريقى كله فى لزق التيكيت الورق على الجلاد البنى، وأهدرت ساعات عمل الواجب فى محاولة لمحو ما كتبه القلم الفرنساوى الجاف، كانت ورطة عظيمة فى البداية، كان الواحد يبلّل طرف الأستيكة ويمحو برفق وفى لحظة هياج مدرسى يقسو على الورقة فتنخرم منه.. كم كراسة كانت تمتلئ برقع من هذه النوعية، يسأل نفسه: الآن ماذا كان سيجرى لو أنه شطب ما كتبه خطأ؟ الأبلة هتزعل؟ الأبلة لم تعد أبلة والتختة صارت «ديسك» والفصل صار «كلاس» والواجب أصبح «هوم وورك» يتم حلّه وإرساله بالميل.
فجأة وجد ابنه يلف فوطة حول وسطه ويمد يده يلتقط ما يبحث عنه بنفسه من الدولاب فى صمت وارتداه، ثم قفز فى السرير، قائلًا بنبرة لا تخلو من تهكّم «تصبح على خير يا بابا».
فكّر أن هذا الولد يشعره بأن عمره راح هدرا.. ابنه أخد دش «شاور» ثم ارتدى «شورت» ونام، هكذا ببساطة؟ طيب من يعوّضه عن الأيام التى قضاها يستأذن فيها قبل دخول الحمام «ماما أنا داخل الحمام»، فإذا كان تلبية لنداء الطبيعة فلا مشكلات، أما الاستحمام فله إجراءات أخرى، من يعوّضه عن الأيام التى قضاها مختنقًا بشوك البيجاما الكستور الشتوى بزرارها العلوى الذى ترك فى رقبته علامة مثل زبيبة الصلاة؟ ابنه لديه تليفون يخصّه لا يستطيع هو كأب أن يرفع سماعة خفيّة فى أحد أركان البيت ليسترق السمع إلى جانب من المحادثة، مفتعلًا صدفة مفضوحة، ابنه يضع قدميه عبر النت فى أى مكان فى العالم مطلعًا على كل ما فيه من حسن أو ردىء، بينما كان هو يقضى الليالى يتجوّل فى خرائط كتاب الأطلس الذى تسلّمه فى المدرسة، محاولًا أن يتخيّل شكل ساحل العاج التى تشتهر بإنتاج الكاكاو والماس، لا.. ليس الموضوع بسذاجة سُنة الحياة والتغيير طبيعة وكل هذا الهراء، إنه الظلم بعينه فلا هو عاش طفولته، ابن الطبيعة يجرى عاريًا على شاطئ البحيرة، ولا هو عاش طفولته والعالم تحت يديه بكل أسراره.. لقد عاش طفولة تليق بشخص كان يؤمن أن فريق الكشافة هو سقف التميّز، فإن فاتك الانضمام إليه فعليك أن لا تفوّت الانضمام إلى فريق الشرطة المدرسية.
قال لنفسه «بس برده كانت أياما جميلة»، فقالت له نفسه «ده انت اللى جميل».
عادت زوجته من الخارج، سألته عما يريده عشاء، أخرج علبة الدواء وابتلع حباية، ثم قال لها «أنا ضربت واحد زنجر سوبريم مع خالد قبل ما ينام».
(من كتاب «الكلاب لا تأكل الشيكولاتة» الصادر عن دار أطلس).