ما هى الدوائر التى يعيش فيها الفنان الآن؟ عندما تتسع النجومية يكثر عدد المتسلقين والمستفيدين من وهج النجوم إنهم يصحبون مثل الأعشاب الضارة.. أغلب نجوم الطرب صارت دوائرهم لا تتجاوز تلك الأعشاب ولهذا لا يسفر الإبداع إلا عن الهزال الذى نراه يشغل الحيز الأكبر من الصورة!!
لا يعيش الفنان بمعزل عن الحياة ولا عن البشر فهو بقدر ما يأخذ منهم يمنحهم.. كما كان يقول أحمد شوقى «إنه يمتص رحيق الزهور ليعطى عسلا شهيا» والزهور فى حياة الفنان هم الأصدقاء المقربون الذين يتحولون إلى أشرعة يطل من خلالها على الدنيا.. كان الشيخ الملحن أبو العلا محمد ثم الشاعر أحمد رامى هما شباك الثقافة الذى أطلت منه أم كلثوم على ثقافات الدنيا وقال لى الموسيقار كمال الطويل إنه فى بداية التقائه مع أم كلثوم كانت تحرص على أن يأتى إلى فيلتها ومعه كوكبة من كبار المبدعين من شباب جيله مثل فتحى غانم وصلاح جاهين وأحمد بهاء الدين لأنها تسعى لكى تُصبح دائما على موجة الزمن.
وكان أحمد شوقى دليل عبد الوهاب فى بداياته مع مطلع العشرينيات من القرن الماضى وبعدها كان يحرص على أن يفتح نوافذه للأجيال التالية أنيس منصور ومصطفى محمود وصولا إلى محمود عوض الذى كتب عنه «عبد الوهاب الذى لا يعرفه أحد». ومن الواضح أن عبد الحليم حافظ قد استفاد من تجربتى أم كلثوم وعبد الوهاب ولهذا اتسعت دائرته فى الثقافة لتشمل العمالقة من الجيل الأكبر كامل الشناوى ومصطفى أمين وإحسان عبد القدوس ويوسف السباعى وصولا إلى جيله.
هذه الكوكبة من المفكرين لم يسع إليها عبد الحليم لأنه يريد أن يجمل صورته أمام المجتمع، ولكن من خلالهم أدرك أن عليه تذوق الكلمات والألحان وأيضا الأقوال.. لو أنك مثلا تابعت العديد من إجابات عبد الوهاب المسموعة والمرئية والمقروءة سوف تعتقد أنك بصدد أديب كبير لأنه كان دائما حاضر البديهة متوقد الذهن وهو فى حضرة الكبار، ولهذا كان يلتقط منهم بعض التعبيرات ليعيد استخدامها منسوبة إليه.. عبد الحليم كان أيضا يسير على نهج أستاذه عبد الوهاب!!
هناك دائما بين الفنان وجمهوره جسر وهو وسيلة الإعلام التى تقدم عنه صورة ذهنية، حتى إن أغلب المطربين لكى يضمنوا تعاطف الجمهور كانوا يقدمون فى أفلامهم قصة كفاح لمطرب يبدأ من السفح حتى يصل إلى القمة ويضحى ولا يتنازل.. كل ذلك حتى يتم تثبيت هذه الصورة ليس فقط من خلال أحاديثهم، ولكن عبر الأفلام بعدها يحدث توحد بين الفنان فى الواقع وتلك الصورة التى صدرها فى العمل الفنى، وإذا كان الزمن قد منح الجمهور قدرة على أن لا يترك نفسه نهبا للصورة الدرامية فإنه على الجانب الآخر ترك المجال لكى نرصد الفنانين من خلال إبداعهم وأيضا طريقة تسويقهم لهذا الإبداع والإعلان عنه والأسلوب والتوقيت.
بعد تعدد الفضائيات صار الناس يتعرفون على الفنان من خلال اللقاءات التليفزيونية وكثيرا ما يسىء مطربو هذا الجيل استخدام هذه الوسيلة واسعة الانتشار!!
من البديهى على سبيل المثال أن يأتى الفنان لكى يقدم رؤية مغايرة لما سبق ولا توجد قدسية لأى عمل فنى ولا لفنان هناك فقط حق احترام التجربة السابقة.. أنا لا أوافق على أن نظل فى حالة تقديس لكل ما هو ماضى.
الاحترام يتيح لنا إمكانية الاختلاف، لكن القدسية لا تعرف إلا الخضوع والإذعان ولهذا فأنا عندما أقرأ أن أحد نجوم الغناء الآن انتقد أغنية أو مطربا ممن تعودنا أن نطلق عليهم فنانى الزمن الجميل لا أنزعج وأعتبرهم خارجين عن «الملة» الغنائية.
فى صفحات حياة عبد الحليم بالتأكيد مواقف سلبية بعد أن امتلك النجومية الطاغية تمرد على رفقاء الطريق مثل الطويل والموجى شعر كل منهما أن عبد الحليم صار زعيما.. قال لى الطويل إنه فى أثناء بروفات أغنية «بالأحضان» لاحظ أن عبد الحليم يوجه الفرقة الموسيقية فى حضوره وغضب وكانت بداية توتر العلاقات بينهما ثم صالح الموجى وعاد إليه فى «رسالة من تحت الماء» واتفق مع الطويل على أن يغنى له عاطفيا من شعر الأبنودى «ولا كل من ضحكت عينيه عاشق»!!
وقف عبد الحليم مغردا على شجرة الغناء ولا يزال فى ذكراه التى تحل بعد بضعة أيام فى أعلى وأغلى أغصان الشجرة!!