هل تعوَّدنا على العنف والهمجية ومنظر الدم والتعذيب والقتل العلنى فى الشوارع؟ هل تآكل مخزون تحضّرنا ورقيّنا الإنسانى ورهافة مشاعرنا وأُزهقت الروح المسالمة التى بدت تميِّز مجتمعنا حتى فى أسوأ العهود والعصور؟!
أظن الإجابة واضحة بقدر ما هى مفزعة، وهى تصفع عيوننا وما تبقَّى من ضمائرنا هذه الأيام.. فمن كان يصدق أو يجرؤ على توقُّع أن زمنًا أَسْود سيأتى علينا وقد أصبحنا نتابع فيه يوميا وبغير اكتراث أو ببلادة الاعتياد، هذا السيل الجارف من أخبار وصور عمليات قتل وتعذيب وحشى جماعى (بعدما سكتنا وغطرشنا على التحرش الجنسى الجماعى) لبشر من بنى جلدتنا بذريعة أنهم متهمون بارتكاب جرائم جنائية ثقيلة (بعضها تافه) فاستحقوا القصاص وانتقام جموع الناس منهم بأيديهم على نحو مروِّع وإلى درجة التمثيل بالجثث المدماة وتعليقها وعرضها للفرجة العمومية فوق أعمدة الإنارة أو على جذوع الأشجار؟!
كل هذا العنف الذى يتفجر من حولنا فى كل مكان وأينما وَلَّينا وجوهنا من أين أتى؟ ومن أى تربة خبيثة نبتت كل تلك القسوة وفى أى بيئة مسمومة نمت وترعرعت؟!
الإجابة أيضا المفروض أنها معروفة ومفضوحة تماما، لكن بعضهم إما يتجاهلها عمدا وإما يستعبط ويصغّرها ويختزل عناصرها إلى حدود لا تسمح بإدراك طبيعة الكارثة وأسبابها الحقيقية، مما يؤدى بدوره ويساعد على إهمالها وتركها تتفاقم وتستفحل أكثر حتى يستحيل مجتمع المصريين لوحة دموية فوضوية هائلة.
فأنت تسمع من هؤلاء المستعبطين إذا اعترفوا بمشكلة العنف أصلا كلامًا فيه من النصب الخايب أكثر كثيرا من الجهل وضيق الأفق وظلام العقل، فأغلب هؤلاء يردّون أسباب الظاهرة العنيفة المتفشية إلى مجرد الانفلات الأمنى وضعف الوجود الشرطى فى الشارع بعد الثورة ولا يشيرون إلى أى سبب آخر!! وأحيانا قد يحلّقون فى فضاءات الغباوة والخيابة البعيدة جدا فتراهم يضيّقون دائرة العنف أصلا ويهوّنون من شأنها، إذ يقصرونها على أخفّ صورها وأقلها إرعابا أى ما يطلق عليه فى الدنيا كلها «شغب المظاهرات»، من نوع إلقاء متظاهر «طوبة» أو حتى زجاجة «مولوتوف» على قوات أمن أو قطعان «ميليشيات» منظمة منفلتة من أى قانون أو أخلاق، يعرف هذا المتظاهر من فيض التجارب القاسية التى خاضها فى الزمن القريب، أنها لو تمكنت منه وأمسكت به ستعذبه وتعجن عظامه بلحمه وقد تقتله!!
هنا بالضبط يكمن الاستعباط وتبدأ باقى الحقيقة تتكشف، ومنها أن غياب الشرطة عن ممارسة واجبها الأصلى هو لا شك عامل مهم من عوامل ازدهار العنف المجتمعى الحالى، لكنه قطعًا ليس العامل الوحيد ولا حتى السبب الأكثر الأهمية، وإنما المهم فعلا هو المنطقة التى تربَّى فيها هذا العنف وكل تلك القسوة أصلا، قبل أن تتدفق تجلياتها وصورها من بوابة دور الشرطة الغائب، فما معالم هذه المنطقة الخطرة؟!
إنها معالم مركبة ومتداخلة ويختلط فيها الثقافى والروحى بالمعيشى والسياسى، وكلها بؤس فى بؤس، فسياسات الفساد وإشاعة الفقر والتجويع والتخلف التى ضربت المجتمع على مدى أكثر من ثلاثة عقود، واكبتها ثقافة جهل وانحطاط عقلى وتشويه روحى متعمَّد ومقصود لتسهيل رسوخ الظلم وكبت الغضب وتأميمه أو تصريفه عبر مسارب بعيدة عن المجرمين المتربعين على عرش البلد.
لكن ثورة يناير التى صنعها وصاغ أهدافها وشعاراتها الراقية شرائح وقوى اجتماعية بعيدة (إلى حد ما) عن مركز دائرة البؤس الشامل وواسع النطاق، كانت حدثا «درامتيكيًّا» بدا من الظاهر كأنه يقطع السياق ويفتح الطريق أمام تغيير جذرى يطيح بأسباب هذا البؤس المجتمعى بكل تجلياته ومعانيه، غير أن سوء الحظ والإدارة بالغة السوء للمرحلة الانتقالية أبقت باب التغيير الحقيقى موصدا ترتع خلفه كل أسباب وعوامل الانحطاط الذى هو بدوره مصنع إنتاج أغلب صور القسوة والعنف.. بل حدث أكثر وأسوأ من ذلك عندما سقطت السلطة بالمخاتلة والتآمر فى يد «جماعة شر» لا تؤمن فحسب بأهداف الثورة وإنما تنفر منها وتكرها كراهية التحريم، فضلا عن أنها هى نفسها واحدة من أثقل وأقوى منتجات بيئة البؤس الشامل خصوصا بؤس الفكر والروح والأخلاق!!
لهذا، ليس صدفة أن مظاهر الانفلات العنفى الرهيب قفزت قفزات طفرية وتفاقمت بمعدلات قياسية فى الشهور الأخيرة بالذات (لا بد من ملاحظة أن بعض أبشع هذه المظاهر لم نره ولا كابدناه بهذه الكثافة العددية بعد الثورة مباشرة عندما كانت الشرطة لا وجود لها بالمرة) وليس صدفة أيضا أن يكون كل سلوك هذه «الجماعة» فى الحكم والسياسة الوحيدة الواضحة التى تنفذها (رغم الخيبة القوية والفشل الذريع على كل صعيد) هى تقويض أسس وأركان دولة القانون وحصار وتحطيم مؤسساتها كافة، إضافة إلى استعارة أساليب وطريقة تفكير عصابات الشوارع، ومن ثم إطلاق موجات متتابعة من الجرائم التى لم تبدأ بمحاولة تنفيذ خطة «التمكين» المجنونة وخطف الدولة المصرية الحديثة ونقلها كلها إلى مغارتها السرية الرطبة، ولا انتهت باستخدام «الميليشيات» فى القمع والتعذيب العلنى تحت أسوار القصر الرئاسى أو فى معسكرات الأمن المركزى، وأخيرا أمام «وكر» مكتب الإرشاد فى ضاحية المقطم!!
هل ما زلت تسأل عن أسباب انفجار جنون العنف فى أحشاء الوطن؟!
لقد ضاق المجال ولم يعد هناك متسع لكلام كثير ما زال ناقصا.. وقد أعود قريبا للموضوع.