صحوت فجأة على صوت زوجتى تقول «يا ساتر يا رب»، تقلبت فى الفراش متسائلا عما يحدث فأزاحت الستائر لأرى العالم يغرق فى ظلام موحش لا يليق بالتاسعة صباحا، كانت العواصف الترابية مدعاة للعودة إلى النوم، لكن غُصة ما أحدثه المشهد أفرغت وسائد النوم من الهواء.
فى قلب العاصفة كان الواحد يخوض مشاويره وهو يفكر أن الطقس يشبه مصر تماما، فالرؤية مختلة والارتباك مسيطر بخلاف كل هذه الوجوه التى يعلوها الضجر والاستياء وطبقة من التراب أطفئت لمعتها الربانية المحببة إلى النفس، كانت العاصفة تشتد فيدير الناس فى الشارع ظهورهم إلى بعضهم بعضا ويتفرق الجمع الموجود على موقف الميكروباص إلى أفراد، كل واحد يحاول أن ينجو بنفسه من الحدث، بخلاف كثيرين كانوا يقفزون فى أول مواصلة دون أن يسألوا عن اتجاهها فقط للهروب من العاصفة.
كان الواحد يقضى مشاويره بصعوبة فى هذه الأجواء ويفكر أنها «مش ناقصة»، ويسأل نفسه عن مدى نصيبه من الحظ إذ انتصفت ثلاثينياته أحلى أيام عمره فى هذه المرحلة من عمر مصر، فيقول إنه أفضل من غيره بكثير فهناك من عاش هذه المرحلة تحت وطأة الاحتلال أو الحرب، فيخرج شيطان الأفكار قائلا إن الاحتلال أو الحرب يجعلان الناس على قلب رجل واحد بما يكفى لانصهارك فى كتلة كبيرة تشعرك بالونس والصلابة فى مواجهة عدو واضح، فمن العدو اليوم والجبهات متعددة والرؤية مختلة، إذ إن المشهد يهتز بقوة تحت وطأة عاصفة ترابية؟
كان يوما ثقيلا تدفعك خلاله تيارات الهواء إلى حافة اليأس وخلال المشوار إلى الحافة تقلب عليك المواجع وتذكرك بكل الفرص الضائعة منذ بداية الثورة، حتى يومنا هذا إلى أن أنهكنى التعب مع حلول المساء، فجلست فى أحد المقاهى المزدحمة تماما إلا من مقعد أمام بابها الزجاجى داعيا الله أن يضع فنجان القهوة حدا لكل هذا الارتباك.
مر صديق هو فنان شاب يحمل جيتاره صافحته، وقد كان عائدا للتو من حفل فى ساقية الصاوى مشحونا بسعادة نجاح ما «كان فيه ناس فى الحفلة؟.. ماكانش فيه مكان لحد يقف»، نتحدث من الوضع واقفا مر من خلفه أسرة من أب وأم وطفل يلتهمون جميعا الآيس كريم، ابتسمت للمشهد ثم سقطت البولة من يد الطفل فبدأ يبكى فحمله والده وأعطاه بولته وقبل أن يضعها الطفل فى فمه قربها من فم والده ليأخذ «لحسة»، صديق آخر ظهر بعد قليل حدثنى عن فيلمه التسجيلى الجديد (طب اقعد اشرب حاجة.. لا ماعلش أصْلى راجع المنصورة)، من باب المقهى الزجاجى كان مكتوبا على شاشة التليفزيون (مصر 6 - سوازيلاند صفر) وبينما لاعب المنتخب يحتفل بالهدف السابع قال عامل المقهى إفيهًا لم أسمعه وهو يشير إلى التليفزيون، لكننى شاهدت المقهى كله غارقا فى الضحك، كان صديقى المقبل على الزواج يهاتفنى متسائلا عما يجب أن يفعله بميزانيته القليلة (فرح ولا شهر عسل؟) بدأت المكالمة بـ(إنت معاك كام؟) وانتهت بخطة صغيرة تجعل المبلغ كافيا لكليهما. رجل كبير محترم يرتدى بدلة لا تشبه ثمرة القرع العسلى الضخمة التى يحملها يفتح باب سيارته الخلفى ويضعها ببطء ثم يتحرك بسرعة، بينما السايس يحاول اللحاق به دون فائدة «يا رب تطفحها» قال السايس فتوقفت السيارة، توقعنا مشاجرة لكن الرجل كان يخرج يده من الشباك بورقة مالية التقطها السايس ثم عاد إلى مكانه يطلق صفارته لسيارة جديدة، شخص لا أعرفه توقف ليصافحنى وكله سعادة، لأنه وجد عندى أول الخيط «أنا تعافيت من الإدمان وأقدم حاليا كورسات للإقلاع عن المخدرات وكتبت تجربتى فى كتاب ولا أعرف السبيل لنشره وما صدقت قابلت حد زيك»، اختبرت جديته «وسميت الكتاب إيه؟» فقال فورا «ورقة بفرة»، أحببت حماسه فسلمت طرف الخيط لناشر صديق، كان المنتخب يحرز هدفه التاسع بينما عامل المقهى يسحب الفنجان الذى لم أشرب منه ويضع بدلا منه فنجان قهوة آخر «القهوة بردت عملت لك غيرها»، أنهيت القهوة بينما وجه أحمد جعفر لاعب الزمالك المنضم إلى المنتخب لأول مرة فى حياته يملأ الشاشة، وقد علتْه ابتسامة طفل حقق له والده أمنيته القديمة بزيارة الملاهى.
غادرت المقهى وكلى يقين أن الحياة مستمرة بقوة وفى كل مكان، وأن الناس فى مصر عظيمة ليس لأنها أصبحت تتكلم فى السياسة، فهى تهذى بقوة عندما تأتى سيرتها، لكن لأنها قادرة على اكتشاف شوارع جانبية تقودها إلى ما تحلم به، الحياة أقوى من السياسة ومن العواصف المزعجة، فها هو التراب ينحسر وأستنشق خلال سيرى نسمات هواء صافٍ، بها لسعة برد مفرحة، بينما على بعد خطوات أرى بيتى بوضوح.