حتى الحقيقة الوحيدة فى ذلك العالم.. ألا وهى أننا موجودين على سطح ذلك الكوكب المعلق بين بقية أقرانه من الكواكب فى الفضاء والمحاط بنجوم ملتهبة وشهب مندفعة ونيازك قاتلة وأشعة كونية مدمرة لخلايا المخ والجسم.. حتى تلك الحقيقه التى تكاد تكون من وجهة نظرنا مؤكده.. ليست حقيقه بقدر ما هى مجرد تصورنا الخاص والمحدود لما يمكن أن تكون عليه الحقيقه.. فالحقيقه ليست حقيقه سوى من وجهة نظر خالقها فقط.. «الله» هو الوحيد الذى يمتلك الحقيقة.. أما نحن فلسنا سوى قطيع نمل عبيط وواهم يسلك طريقه عبر رخامة مطبخ السماء.. لا يكاد يدرك حجم أو مكونات الوجبة الضخمة التى يتم إعدادها.. بينما ينصرف إنتباهه كله إلى محاولة الحصول على ذرة سكر ضائعة وسط ألوان الرخامة المموهة لا يكاد صانع الوجبه نفسه يراها من فرط صغر حجمها وعدم أهميتها.. لتظل الحقيقه الوحيده المؤكده فى ذلك العالم الوهمى الذى نعيش فيه أنه ليست هناك حقيقة.. ليست هناك حقيقة على الإطلاق!
أما فيما يخص ما اعتدنا تسميتها بالحقائق التاريخية فدعونى أصارح نفسى بالحقيقة المرة المتمثلة فى انه لا يوجد ما يسمى بالحقيقة التاريخية.. فقط هناك اشخاص من الماضى اخبرونا بحكايات قد يكون بعضها صحيح وقد يكون بعضها الآخر خاطئ.. فالتاريخ فى الأساس ما هو إلا كذبة كبيرة إضطررنا لتصديقها لملء الفراغات الكثيرة فى تفكيرنا.. تلك الفراغات ذات العلاقة الوثيقة بالإجابه على مثل ذلك التساؤل السرمدى.. «هو إيه اللى حصل قبل كده»؟!
يعضد ذلك الإعتقاد ما رأيته على مدار تلك السنوات القليلة التى إستضافنى فيها كوكب الأرض لأشرف بقضاء تلك الأجازة الأرضية القصيرة عليه.. فإذا كانت صناعة الكذب وتزوير الحقائق والتاريخ واللعب فى دماغ الناس تتم الآن على الهواء مباشرة أثناء وقوع الحدث نفسه وفى وجود كل تلك الوسائط التكنولوجيه التى يستطيع البنى آدم من خلالها التعرف على الحقيقه بمنتهى السهوله.. فما بالكم بقى بشخص يخبرنا بما حدث منذ ألفين سنه مثلا.. حيث لا يوتيوب ولا تويتر ولا فيس بوك ولا مواقع إخباريه ولا نت ولا كمبيوتر أساسا ولا تليفزيون ولا حتى راديو ولا جرائد ولا كاميرات فى التليفونات ولا تليفونات أصلا ولا وسائل مواصلات للذهاب سريعا إلى موقع الحدث وتغطيته والتعرف على تفاصيله.. إن مجرد تخيل كم الأكاذيب التى قد نكون كبرنا على أساس أنها حقائق تاريخيه يصيبنى بالهلع.. تخيلوا معى مؤرخا من قطعية ممتاز القط أو أسامه سرايا أو مصطفى بكرى مثلا يكتب لنا ما قد نتعامل معه بعد مئات السنين على أساس أنه الحقيقة.. يا نهار اسود.. هل تدركون حجم المأساة؟!
كيف يمكننى بعد ذلك أن أصدق حكايات وحقائق ومعلومات حكاها لنا المؤرخون عن مواقع حربية قديمة حدثت منذ مئات السنين بالخيول والسيوف والمنجنيق.. بينما لم يخبرنا أحد حتى الآن حقيقة ما حدث فى موقعة الجمل على الرغم من حدوثها منذ عامين فقط ومعاصرتنا لها ورؤيتنا لها رؤى العين.. وإذا كان البعض لا يخجل من التفوه بالأكاذيب فيما يخص ما يحدث الآن.. فمن المؤكد أن هؤلاء الذين لا يخجلون من التفوه بالأكاذيب كانوا موجودين زمان أيضا ومن المؤكد أنهم هم الذين حصلوا على فرص الشهرة وهم الذين ذاع صيتهم بسبب تملقهم للسلطة الحاكمة آنذاك.. إذن.. بعد كل هذا العبث.. كيف أصدق التاريخ إذا كان الحاضر الذى أعيشه وأحياه وأتنفس أوكسجينه بنفسى.. أصلا كداب؟!
يقول «كزانتزاكيس» فى تحفته الفنية «تصوف».. « أنا سلة مليئه باللحم والعظام والدم والدموع والعرق والرغبات والرؤى.. أعدو للحظه فى الريح.. اتنفس.. يخفق قلبى.. يضىء عقلى.. وفجأه.. تنفتح الأرض وأضيع.. قوى لا تحصى.. مرئيه وخفيه.. تفرح وتتبعنى حين اتقدم صاعدا بمشقه عكس التيار الأعظم.. قوى لا تحصى.. مرئيه وخفيه.. تهدأ وتسكن حينما أتراجع إلى الوراء.. هابطا عائدا إلى التراب.. ينهمر قلبى.. لا أطلب بداية العالم ولا نهايته.. أتبع إيقاع قلبى الرهيب.. وأذهب.. لهذا.. ألق التحيه على الأشياء كلها فى كل لحظة.. ارسل نظرك بتؤده ووله.. ثم قل.. الوداع «!