مازالت صورة مدرس الدين تراوح مكانها فى ذاكرتى، منذ بداية خمسينيات القرن الماضى حتى اليوم.. كنت آنذاك فى الصف الثانى الإعدادى بمدرسة الدكتور على مشرفة الإعدادية بدمياط.. كان مدرسنا- رحمه الله- قصير القامة، يلبس حُلّة «آخر بهدلة».. القميص كان «مشجر»، ياقته تدلت منها رابطة عنق قصيرة وعريضة، لا علاقة لها بالحُلة.. بنطاله تم شده الى أعلى بحمالتين فارتفع إلى صدره.. وبخلاف قامته ورابطة عنقه، كان طربوشه طويلا.. كان مجرد دخول الرجل إلى الفصل يثير الهمهمات والغمزات بيننا.. فإذا تكلم أثار ضحكنا.. صحيح كان الضحك بصوت مكتوم، لكنه كان ملحوظا.. فى أحد الأيام كان يتلو علينا بعض الآيات كى نرددها وراءه، فانفجرنا فى الضحك.. غضب الرجل منا غضبا شديدا، وعنّفنا بقوله تعالى الوارد فى أواخر سورة النجم: «أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون»؟!.. لقد التبس الأمر على مدرسنا.. تصور أننا نضحك على آيات القرآن.. وحاشانا.
يذكرنى بعض الدعاة، أو المنتسبين إلى الدعوة اليوم، بمدرس الدين فى سالف الأيام.. يتصورون أن الشباب، سواء كانوا ليبراليين أو قوميين أو يساريين أو حتى عوام المسلمين الذين ليس لهم انتماء سياسى، يسخرون من الإسلام.. والحقيقة أنهم يسخرون من الدعاة أنفسهم.. فهؤلاء فشلوا فى عرض قيم الإسلام وآدابه عليهم بالشكل الذى يحببهم فيه ويقربهم إليه، علاوة على أنهم لم يقدموا النموذج والقدوة الصحيحة.. أعرف بعضاً من هؤلاء الشباب.. لمست فيهم جهلاً بالإسلام، لا كراهية له.. أستعيد فى ذلك من عمق الذاكرة كتيبا صغيرا فى حجمه، كبيرا فى قيمته، كتيب «الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه» للشهيد العظيم عبدالقادر عودة.. الشباب الغاضب محتاجون فقط لمن يدلهم على الطريق برفق وأناة.. لمن يخاطب قلوبهم وعقولهم.. لمن يحترم آدميتهم وإنسانيتهم.. لمن يبين لهم أصول هذا الدين وقواعده ومنهاجه.. لمن يقدم لهم تصورا متكاملا ومتماسكا عن الكون والحياة.. لمن يوقظ معانى الإيمان فى قلوبهم بخالق الوجود، المتصف بصفات الجمال والجلال والكمال.. لمن يعرفهم بالحبيب المصطفى، صلى الله عليه وسلم، وسيرته العطرة، وصحابته المصطفين الأخيار.. ثم هم محتاجون لمن يثقون فيه، وفى صدقه وإخلاصه ومروءته وشهامته ورجولته، وفى عقله وحكمته ورشده وسعة أفقه..لمن يفتح لهم باب الأمل والرجاء.
إن هناك فارقا كبيرا بين الدعاة والمنتسبين للدعوة وبين قيم الإسلام.. بعضهم يتصورون أنهم يمثلون الإسلام ذاته، وبالتالى فالاختلاف معهم هو اختلاف مع الإسلام، وهذا يمثل مشكلة كبرى.. يتصرفون وكأنهم جماعة المسلمين، وليسوا جماعة من المسلمين، وهذه مشكلة ثانية.. بعضهم الآخر يناقشون مخالفيهم بغير علم ولا فهم ولا فقه، فضلا عن الافتقاد إلى التقوى والورع، وهذه مشكلة ثالثة.
أثناء فترات التضييق والملاحقة والمطاردة من قبل الأنظمة القمعية، كان المنتسبون للدعوة غاية فى الرقة والعذوبة والحلم والأناة.. يمدون أيديهم للجميع.. ينشدون من القوى السياسية والوطنية الدفاع عنهم والوقوف إلى جانبهم.. يؤكدون مبدأ المشاركة لا المغالبة.. وأنهم لا يطمعون فى حكم.. جُلّ أمانيهم أن تتاح لهم حرية الدعوة إلى الله.. لكن بعد أن منّ الله عليهم بالوصول إليه، نسوا كل ذلك.. ألقوه وراء ظهورهم.. فلا رقة ولا عذوبة ولا حلم ولا أناة، بل خشونة ورعونة وعنف ودم وغرور وكبر وغطرسة، إلا من عصم ربى.. المشاركة كانت لغواً.. خيالاً.. مرحلة وانتهت.. تجاوزها الزمن.. نحن الآن فى زمن المغالبة.. أليست هذه ديمقراطية الصندوق؟! إذن، موتوا بغيظكم!!
آه من السلطة.. كاشفة وفاضحة.. ومزرية أيضا.. تزرى بأصحابها ولا تبقى لهم على حال.. على أعتابها يخلع النُّساك والعُباد أردية الفضيلة، يتنكرون أو ينسون أخلاقهم وقيمهم ومبادئهم.. آه من السلطة.. غاشمة، ضيقة الأفق، لا ترى إلا نفسها، ليس لها صاحب أو صديق.. حتى عشاقها الذين يقعون فى هواها لا تلقى لهم بالاً، بل سرعان ما تتخلص منهم واحداً بعد الآخر، بعد استخدامهم والانتهاء من أدوارهم.. لكن لا أحد يتعظ أو يعتبر.. لذا لا يستطيع أن يتحمل تبعاتها ولا ينجو من أسرها وبريقها وجاذبيتها.. وغدرها وخداعها.. إلا من رحم ربى.
أصحابنا الذين دخلوا السياسة ارتكبوا الأخطاء نفسها.. ساروا على الدرب نفسه الذى سارت عليه الأحزاب الأخرى التى توصف بالعلمانية.. والحقيقة أننا فى أمس الحاجة إلى شىء من المصداقية والشفافية.. والأخلاق.