لم أفاجأ، ولا أظن أن أحداً غيرى فوجئ، بما صنعته جماعات الإسلام السياسى فى مالى خلال السنوات الثلاث الماضية، التى سيطرت فيها على بعض المناطق والمدن فى هذا البلد الأفريقى المنكوب، كغيره من البلاد الإسلامية التى نكبت بهذه الجماعات.
وقد تابعت وأنا فى باريس ما كانت تنشره الصحف وتعرضه القنوات التليفزيونية الفرنسية من صور التوحش والبربرية التى مارستها هذه الجماعات باسم الإسلام، فوجدتها حلقة من حلقات مسلسل لم يبدأ اليوم ولن ينتهى غداً!
ومنذ أكثر من ربع قرن كنت فى الخرطوم بعد أن أطاح الجيش السودانى وقائده سوار الذهب بحكم «النميرى»، وسلم السلطة للمدنيين الذين فتحوا السودان أمام العالم ليرى بعينيه ما ارتكبه «النميرى» بمساعدة «الترابى» من جرائم بشعة أشعلت الحرب الأهلية بين شمال السودان وجنوبه، وأدت إلى انفصالهما، وما خلفه وراءه من ضحايا كان بينهم المقطوعون بتهمة السرقة، وقد ساروا فى مظاهرة ضخمة يلوّحون بسواعدهم المبتورة عند الرسغ، ويتقافزون بسيقانهم المكسورة. ونحن، أعضاء المنظمة العربية لحقوق الإنسان، نرى من شرفة الفندق الذى نزلناه كيف تحول الإسلام على يد المتاجرين به والحاكمين باسمه إلى محارق ومعاول وساحات للقطع والجلد والرجم والإعدام.
والمظاهرة التى شاهدتها فى الخرطوم قبل ربع قرن شاهدتها أخيراً فى التليفزيون الفرنسى الذى نقل لجمهوره مشاهد دامية مما خلفته الجماعات الإرهابية التى فرت من تمبوكتو وسواها من مدن مالى، بعد أن قررت فرنسا أن تساعد حكومة مالى فى تطهير بلادها من هذه الجماعات الإرهابية التى بدأت نشاطها فى الجزائر، ثم تسللت بعد الضربات التى تلقتها على يد الجيش الجزائرى إلى مالى وغيرها من البلاد الإسلامية، فى غرب أفريقيا، مستغلة ما تواجهه هذه البلاد بين وقت وآخر من هزات تنتج عن التعدد العرقى والانقلابات العسكرية التى أضعفت الدولة وفتحت المجال للتطرف والمتطرفين.
والماليون شعب يجمع بين الأفارقة السود، من ناحية، والطوارق أو الملثمين المستعربين من ناحية أخرى، وهؤلاء شعب بدوى من البربر المغاربة، يعملون بالرعى والتجارة ويتنقلون بين بلاد المغرب وأفريقيا الغربية، التى نشروا فيها الإسلام ووحّدوها، وأنشأوا فيها المحطات التجارية والدول والمدن العامرة، منها مدينة تمبوكتو التى نشأت فى القرن الحادى عشر الميلادى، فلم يمض وقت طويل حتى أصبحت عاصمة من عواصم الثقافة الإسلامية الأفريقية بمكوناتها المختلفة العربية المشرقية والمغربية، والبربرية الأمازيغية، والزنجية بتراثها الحافل النابع من أصولها العريقة وروافدها المتعددة.
هذه الثقافة الإسلامية المختلطة أهلت تمبوكتو بموقعها المتوسط بين غرب أفريقيا وشمالها، وبين الإسلام العربى والإسلام الأفريقى، لأن تمثل مختلف المصادر المشاركة فى ثقافتها وتصبح مقصداً للجميع، فضلاً عن أنها أصبحت بهذه الثقافة مؤهلة لأن تحتضن الإسلام الصوفى بالذات، لأن الإسلام الصوفى طرق متعددة ومجاهدات فردية توزن بالباطن لا بالظاهر، وتنبعث من الاستغراق فى الحب وطلب القرب لا من طلب الثواب وخوف العقاب، ومن هنا يتسع الإسلام الصوفى للثقافات المتعددة والاجتهادات المختلفة، وقد بلغ عدد المدارس القرآنية التى كانت تضمها تمبوكتو حوالى مائة وتسعين مدرسة، وانتشرت فيها الطرق الصوفية التى اشتهرت بها وبالمنتسبين لها من أولياء الله الصالحين، حتى سميت مدينة الثلاثمائة والثلاثة والثلاثين ولياً، وهو عدد ذو طابع رمزى، فالثلاثة عدد صحيح لا يقبل القسمة، إذن فهو يرمز للواحد الأحد، فضلاً عن أن هذا العدد يقترب من عدد أيام السنة، إذن فتمبوكتو تستطيع أن تقيم فى كل يوم من أيام السنة مولداً تحتفل فيه بولى من أوليائها الذين قدم بعضهم من المغرب، وبعضهم من المشرق، بعضهم من أبناء مالى، وبعضهم من أقطار أفريقية أخرى منها السودان، الذى قدم منه أحمد بابا، وهو فقيه مستنير وأديب شاعر رحل إلى تمبوكتو فى أواسط القرن السادس عشر، وعاش فيها بقية عمره يلقى الدروس ويكتب وينظم الشعر ويتزعم المدينة فى مقاومتها لنفوذ السعديين الذين حكموا المغرب فى القرنين السادس عشر والسابع عشر، وحاولوا أن يمدوا نفوذهم جنوباً فى أعماق القارة.
هذا التاريخ الحافل نتج عنه تراث حافل من المساجد والزوايا والأضرحة والمخطوطات التى بلغ عددها مائتين وخمسين ألف مخطوط فى الفقه، والتصوف، والرياضيات، والفلك، والأعشاب الطبية، والأشعار، والنصوص المسجوعة، والسير الملحمية، بالإضافة إلى النسخ المخطوطة من القرآن الكريم والأحاديث النبوية. وقد كتبت هذه المخطوطات بالعربية وبعض اللغات الأفريقية، واستخدم الورق وجلود الخراف وعظام الإبل فى كتابة هذه المخطوطات التى اعتبرتها منظمة اليونسكو تراثاً إنسانياً يجب أن يحفظ ويبقى للأجيال، لهذا وضعتها تحت رعايتها وأسهمت قبل أربع سنوات فى بناء مركز جديد لها زودته بما يلزم لحفظها ويمكن الباحثين من الرجوع إليها.
لكن هذا كله لم يكن يمثل لجماعات الإسلام السياسى شيئاً، لا التاريخ، ولا حوار الثقافات، ولا الإبداع الأدبى والفنى، ولا حتى نسخ القرآن والحديث التى ألقوا بها للنيران وأحرقوها، لأنهم اعتبروها صوراً من صور الوثنية، وأثراً من آثار الجاهلية التى عاد إليها المسلمون فى هذا الزمان، فأصبح على الإرهابيين الذين تعلموا على يد سيد قطب، والمودودى، وأمثالهما أن يلعبوا دور المسلمين الأوائل الذين فتحوا البلاد وحطموا الأوثان، وبما أن المسلمين الأوائل، أو معظمهم، كانوا أميين لا يقرأون ولا يكتبون فهؤلاء مثلهم، لهذا لم يميزوا بين نسخة خطية من نسخ القرآن ونسخة خطية من ديوان ابن عربى أو ديوان ابن الفارض، وألقوا بكل ما وجدوه للنار التى أشعلوها!
هكذا جلست أشاهد ما كانت تنقله لنا الكاميرا وهى تجوس داخل تمبوكتو وتتنقل بين أطرافها لنرى المقطوعين الذين بترت أكفهم وأقدامهم، ونرى تراث تمبوكتو وقد صار رماداً تذروه الرياح.
لم أستغرب ولم أفاجأ، كما قلت، لأنى وجدت ما حدث لتمبوكتو على أيدى جماعات الإسلام السياسى حلقة فى مسلسل لم يبدأ اليوم، ولن ينتهى غداً!
لقد حطموا تمثال بوذا فى أفغانستان حتى لا يعبده الأفغان من دون الله، وقطعوا رأس تمثال طه حسين فى المنيا حتى لا يصلى له أهل المنيا، ووضعوا النقاب على وجه تمثال أم كلثوم فى المنصورة حتى لا تضمه المنصورة لـ«اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى»، وقد رأيناهم يهددوننا بتدمير الأهرام وتحطيم أبى الهول، لأن الإسلام الذى يعتنقه هؤلاء إسلام بدوى أعرابى وهابى مقطوع الصلة بكل ما سبقه وبكل ما لحقه.
الحضارات التى سبقت الإسلام شرك ووثنية، والحضارات التى تلت الإسلام شرك ووثنية، حتى الحضارة الإسلامية لم تسلم هى نفسها من الطعن والإدانة، لأنها ابتعدت فى نظر هذه الجماعات عن الإسلام الأول بقدر ما استجابت لمطالب العصر وقانون التطور. فهى فى أحسن الأحوال بدعة.. وكل بدعة ضلالة.. وكل ضلالة فى النار!