هاجس الحرية والرغبة فى تحطيم القيود هو الذى كان يحرك شحنة الإبداع لدى المخرج عاطف الطيب، ولأنه كان صادقا فى انفعاله فإن روحه أيضا تحررت مبكرا من قيود الجسد.
مَثّل المخرج الراحل عاطف الطيب، ولا يزال، نقطة فارقة فى تاريخ السينما المصرية، فلقد كان يسابق الزمن ليترك له رصيدا من الأفلام تعيش بعده وتحمل اسمه، حيث إنه لم ينجب أطفالا، جاء تكريم مهرجان الأقصر للسينما الإفريقية فى دورته الثانية للطيب لنستعيد من خلاله عبق ذاك الزمن.
رحل الطيب عام 1995 وبعدها بعام أعلن مهرجان القاهرة السينمائى نتائج أول استفتاء لأفضل مئة فيلم فى تاريخ السينما المصرية، ليأتى فيلم «سواق الأوتوبيس» فى المرتبة الثامنة، ويصبح عاطف الطيب هو المخرج الوحيد فى جيله الذى وصل إلى تلك المكانة، وجاء أيضا فيلمه «البرىء» فى المرتبة 28 و«الحب فوق هضبة الهرم» 68، ولا أدرى لماذا سقط فيلمه «الهروب» من القائمة؟ والمؤكد أن فيلم «ليلة ساخنة» لو لم يعرض بعد الاستفتاء لكان ضمن تلك الأفلام المئة، أى أننا نتحدث عن خمسة أفلام للطيب تستحق مكانة أفضل مئة فيلم فى تاريخنا السينمائى الروائى الذى يربو على 3 آلاف فيلم.
كانت نقطة الانطلاق لهذا المخرج الاستثنائى عبر معالجة عصرية لعطيل شكسبير بعد أن جمع القليل من الأموال لإنتاج هذا الفيلم الذى وضع من خلاله بطاقة التعارف الأولى بينه وبين جمهوره، وحمل كل حِرفية عاطف الطيب كمخرج، وإن لم يحمل كل أفكاره وطموحاته التى شاهدناها بعد ذلك فى أفلامه التالية.
فيلمه الثانى «سواق الأوتوبيس» انطلق بالطيب ليضعه فى مقدمة صفوف المخرجين الكبار، ووصل إلى الذروة بأكثر من جائزة عالمية!!
لم يكن عاطف الطيب هو أسبق أبناء جيله زمنيا، سبقه المخرجان محمد خان وخيرى بشارة. ولم يكن فيلمه «سواق الأوتوبيس» هو أول فيلم يتناول الانفتاح الاقتصادى والمتغيرات التى حدثت فى المجتمع المصرى، ولكن لا شك أن الطيب كان هو أغزر أبناء جيله، ولا يزال بعد رحيله، فى عدد الأفلام التى قدمها، 21، ولاحقه فقط مؤخرا محمد خان.
فى مجمل أفلام الطيب تستطيع أن ترى أنه يقدم السينما كما يريدها وبشروط لا تتناقض مع السوق، تختلف أعماله أحيانا مع السائد، ولكن بدرجة لا تصل إلى حد التناقص. جاء فيلمه «سواق الأوتوبيس» متصدرا سينما هذا الجيل ومعلنا، ليس فقط عن اسم عاطف الطيب، ولكن أيضا عن جيل جديد من المخرجين باتجاهات مختلفة.
كانت القفزة الثانية للطيب بمعالجة سينمائية لمصطفى محرم عن قصة نجيب محفوظ «الحب فوق هضبة الهرم»، وشارك بهذا الفيلم فى «أسبوعى المخرجين» بمهرجان «كان» السينمائى. وقال صاحب نوبل عن الفيلم «لقد قدمت لى السينما العشرات من الأفلام، ولكنى أعتقد أن (الحب فوق هضبة الهرم) من المعالجات السينمائية الجيدة التى لم تستغل الأصل الأدبى لأسباب لا تمت إلى الأدب أو الفن بصلة، إنما حوّل القصة الأدبية إلى شكل سينمائى متميز، جعل منها بالفعل علامة مهمة فى تطور السينما فى مصر، وجعل من مخرجها بحق عميدا للخط الواقعى فى السينما المصرية الحديثة».
الفيلم كما يراه الطيب، كالطفل يمر بمرحلة حمل وحضانة وطفولة ومراهقة حتى يصبح قادرا على التنفس مع الناس، ولهذا فإن كل التفاصيل الدقيقة التى تسبق ولادة الفيلم يعيها الطيب ليجسدها لنا بعد ذلك على الشاشة.
ومن أفلامه الاستثنائية «البرىء» الذى تجرى أحداثه من دون تحديد الزمان والمكان، ورغم ذلك يحمل جرأة كبيرة تفضح تسلط الدولة وديكتاتورية الحكم، الفيلم يقدم البراءة فى قفص الاتهام، حيث يصبح السجين هو السجان وتختلط جدران السجن بحدود الوطن، وعندما يتحرر الإنسان من داخله يستطيع أن يحرر أيضا الوطن، لأن الوطن ليس هو مساحة الأرض التى نعيش عليها بقدر ما هو إحساس الكرامة الذى نحياه!!
كانت الحرية والرغبة فى تحطيم القيود هى الهاجس الذى يحرك شحنة الإبداع داخله، ولأنه كان صادقا فى انفعاله فإن روحه أيضا تحررت مبكرا من قيود الجسد، لكن أوتوبيس الطيب السينمائى لا يزال منطلقا، أراه دائما كلما لمحت عملا سينمائيا ينضح بالجمال والصدق والإبداع على الفور، أتذكر أنه كان يعيش بيننا قبل 17 عاما عنوانا مضيئا للجمال والصدق والإبداع.