بالنسبة إلى جيلى، وحتى إلى أجيال سبقتنا يرتبط حريق القاهرة بمشهد فى فيلم هنا أو هناك، أو بكونه لغزا تاريخيا، حيث لا يعرف أحد على وجه الدقة من الذى نفذ الحريق. كل فريق يتهم آخرين. لكن هناك حقائق لا مِراء فيها.
سجل أول حريق فى منتصف النهار تقريبا. فى ميدان إبراهيم باشا (ميدان الأوبرا) واستهدف دار الأوبرا. وقت وقوع هذا الحريق كانت المظاهرة الكبرى، احتجاجا على قتل ٥٠ شرطيا مصريا على يد قوات الاحتلال البريطانية، قد انفضت. ثم وقع الحريق الثانى بعد الأول بنصف الساعة، فى شارع فؤاد (٢٦ يوليو) واستهدف شيكوريل وشملا ومحالا تجارية كبرى أخرى. وفى الحالتين رفضت الشرطة والجيش التصدى لمشعلى الحرائق، خوفا من فقدانهم السيطرة على المجندين، بسبب المشاعر الغاضبة. فى الواحدة والنصف اشتعلت النار فى سينما ريفولى ومترو. ما بين الساعة الثانية ظهرا والخامسة وقع تسعون حريقا. وفى المجمل كان عدد الحرائق ٢٤٠ وأتت على ٧٠٠ مبنى.
كان من بين «المحروقات» نادى تورف للضباط الإنجليز. حيث أحرق النادى من أربعة اتجاهات لضمان أن لا يهرب أحد. ثم أوكل إلى مشعلى الحريق الإجهاز على من يستطيع الهرب، فقتل بريطانى بسكين، وأخرجت أحشاء آخر، ووجدت جثة مقطوعة اليد، وأخرى مقطوعة الرجل، وألقيت أربع جثث فى النار، منها جثة امرأة وجثة طفلة.
إجمالى عدد القتلى فى حريق القاهرة عشرون، منهم عشرة مصريين.
ثم إن سيارات كانت تجوب شوارع القاهرة تحمل زجاجات المولوتوف وعدة الإحراق، ترافقها شاحنات ينقل إليها مشعلو الحرائق البضائع قبل إحراق المحال. وقد اتهم قيادات الحزب الاشتراكى، أحمد حسين وإبراهيم شكرى (نائب الحزب الوحيد فى البرلمان ورئيس حزب العمل لاحقا)، ومحمد جبر حسن، وممدوح عبد المقصود، وسليمان زخارى، بالتحريض عليه، من خلال جريدة الحزب، ومن خلال سيارة تحمل عَلَم الحزب جابت الشوارع تدعو الناس إلى المشاركة. أحمد حسين نفسه اعتقل، وأفرج عنه بعد انقلاب/ثورة ١٩٥٢ بقرار من وزير الداخلية، جمال عبد الناصر. وهو، أحمد حسين، كان سابقا رئيسا لحزب مصر الفتاة، وأسس تشكيلات القمصان الخضراء على غرار القمصان البنية التى أسسها هتلر. وهو الآخر، جمال عبد الناصر، كان عضوا فى الحزب.
أما المدانون قضائيا فى الحادثة فثمانية أشخاص فقط. ثلاثة خياطين، وسمكرى، وممرض، وساعى بريد، وبائع صحف، وطفل لم يبلغ. حكم عليهم بالسجن ما بين ٧ سنوات و٢٠ سنة. وبرأهم القضاء فى عهد عبد الناصر، سنة ١٩٥٩، بعد إعادة محاكمة لم تقدَّم فيها تفاصيل جديدة عن الحادثة. التى أريد لها أن لا تُعرف تفاصيلها.
ما سوى هؤلاء، أشرت إلى ما حدث مع قيادات الحزب الاشتراكى، وريث «مصر الفتاة». كما اعتقل ٣٠٠ متظاهر بأمر من وزير الداخلية فؤاد سراج الدين يوم ٢٧ يناير. وفى يوم ٣٠ يناير، أمر وزير الداخلية الجديد أحمد مرتضى المراغى باعتقال ٤٠٠ عضو من الحزب الاشتراكى. كما أوقف عن العمل ٣٥٠ من أفراد الشرطة المساعدة (بلوكات النظام)، وعزل رئيس أركان حرب الجيش المصرى عثمان المهدى، واستقال القائد العام الفريق محمد حيدر، ووضع تحت الحراسة وزير الشؤون الاجتماعية فى الحكومة الوفدية الأخيرة، عبد الفتاح حسن باشا، لأنه شارك فى المظاهرة الكبيرة خطيبا. ثم حُلَّ مجلس النواب فى ٢٤ مارس ١٩٥٢، وفى نفس اليوم وضع وزير الداخلية السابق فؤاد سراج الدين قيد الإقامة الجبرية فى بلبيس. وفى نفس اليوم دُعِىَ إلى انتخابات مبكرة لم تحدث، لأن انقلاب «الضباط الأحرار» عاجَلَها.
سأكتفى بهذا القدر من زحام المعلومات، وسأطلب منك طلبين. أولهما أن تختبرى انطباعك عن هذا اليوم. هل هو نفس انطباعك السابق عنه؟ هل تشعرين أنه نفس اليوم الذى رأيت عنه مشاهد فى «رُدَّ قلبى» وغيره من أفلام الثورة، أو سمعت عنه فى دعاية يوليو؟ لاحظى أننى لم أورد هنا إلا حقائق مسجلة. ولم أُدل برأى.
ثانيهما، أريدك أن تتخيلى ماذا حدث للشارع السياسى بعد هذه الواقعة. مَن استفاد منها؟ من فرض أسلوبه ومن انزوى؟
طلب تالت وحياتك. لو المقال أرهقك، اقريه تانى بعد شوية لو عندك وقت.. لأن المعلومات دى أساس المقالات الجاية. زى ما حريق القاهرة كان أساس المرحلة الجديدة من السياسة فى مصر.