لولا دخولى نقابة الصحفيين مع صديقتى الكاتبة وفاء الشيشينى، ولولا وجود القليل من أصدقاء العمر على أبواب النقابة، لظللت على حالى من الدهشة والتوهان.. والخوف أن ينطلق من لسانى سؤال: إحنا فين؟ وخفت أن يتطوّر التوهان إلى سؤال: إحنا مين؟ فكّرت أكثر من مرة فى العودة لأمان منزلى، والتخلّى عن فكرة ضرورة الوجود لمقاومة أخونة النقابة.. لكننا تشدّدنا بتوافد أصحابنا حاملى الابتسامة إياها.. ابتسامة التحدّى والإيمان بالله الذى يمهل ولا يهمل.. الله الذى ينتصر للحق ويكشف العورات ويخزى المنافقين علنًا وبقوة فى لحظة تبخترهم بغرور قوة كاذبة بلا جذور.. لأنهم زرع شيطانى يتسلّق النبات فينمو ويزهر، لكن أول ريح عفيّة تقلعه بسهولة، فيتطاير ويختفى بلا أثر.. ويصفو الجو بعده.. وينتعش الحقل.. وتتألق زهور الربيع.
نتجوّل فى ساحة مدخل النقابة بقلق، العدد قليل، والدقائق ثقيلة، لكن تدق الأجراس لاكتمال النصاب القانونى فى آخر لحظة.. وقفت فى الطابور انتظارًا لدورى فى التصويت.. أقاوم الشعور بالغربة بين المحجبات اللاتى أصبحن أغلبية فى كرنفال أزياء متنافر منزوع الهوية والجمال.. القليل جدًّا منه يتّبع أصولًا مقبولة ومريحة للعين والنفس.. وأقارنهن بظاهر تدين وفاء وسلمى وهادية وهالة، وهو قوة شجاعة الدفاع عن الحق، شجاعة لا تزايد ولا تنافق الله.
حاملو كروت الدعاية للمرشحين يتزاحمون بلجاجة، لكنهم غرباء عنّى، هم يشبهون ملامح الطريق من مبنى جريدة الأخبار إلى مبنى النقابة.. الطريق شبه مسدود بصفوف الميكروباصات وشماعات الملابس المستعملة المعروضة وسط طوفان التلوّث فى الشارع.. شارعا الجلاء ورمسيس أصبحا امتدادًا للموسكى والعتبة.. تلوّث سمعى وبصرى ومخالفات وجرائم تعدّى على حقّنا كمواطنين فى شارع ورصيف وإشارة عبور وقانون.. تلوّث مجتمعى يلاغى عيون الكاميرات التى اعتادتها، فلم تعد قفشة مثيرة ولا انفرادًا.. فوضى فى حراسة الشرطة الموجودة بكثافة وبمختلف أطيافها وأزيائها لتأمين الانتخابات فقط.
طابور الاقتراع لا يتحرّك.. يتقدّم شاب بعلبة بلح يوزّعها بإلحاح على من أمامى وحولى إلا أنا، ولا يذكر اسم المرشح.. لأن البلح يعنى تَمر، والتَمر هو علامة ورمز واضح ينادى انتخبوا كل المرشحين الإخوان.. لم أغضب، بالعكس رفع عنى حرج رفض سعرات حرارية إضافية فى الحر.. وضاعف من فرص حرق المخزون المستفز منها.
بلح، أو تَمر النقابة، لوّح لى بصورة صفحة من كتاب أولى ابتدائى الذى تداوله نشطاء الفيسبوك، يعلّم الأطفال المعنى المصور للحروف.. «لام» لحية أطلقها ولا أنزعها، و«ح» حجاب، صورة طرحة بسيطة مسدلة تحجب الملامح الإنسانية المتفرّدة لكل طفلة.. وتحجب تميّزها الذى أنعم به الله عليها.
وتَمر نقابة الدفاع عن حرية الرأى، والفكر، والأحلام، والتنوير، وتحفيز المجتمع على التقدم والنمو والبناء.. تَمر نقابة الدفاع عن حق الإنسان فى الحياة بكرامة فى وطنه.. تمر التمييز هذا، سحب إلى أنفى رائحة حريق كنيسة بنغازى فى ليبيا.. وإلى أذنى الأنين الصامت لتعذيب مئة مسيحى مصرى هناك بإهانة عقيدتهم، وإجبارهم على إعلان الشهادة وسب وتحقير رموزهم الدينية، وإذلالهم بالجوع وقضاء الحاجة فى مواقعهم.. وصوت حفيف الموس الذى نزع شعر رؤوسهم ونزع لحية الكاهن.. ورائحة كى الصليب فى معصمهم، لمَحْوِه بتلذّذ وانتقام قبلى همجى.. ودموع الأمهات فى جنازة شهيد التعذيب «عزت حكيم عطا الله».. أحدث شهداء المسيحية الذين انتشرت المسيحية بسبب تمسّكهم بإيمانهم رغم التعذيب وليس العكس.. هؤلاء الشهداء هم أعمدة الكنائس ومحاربتهم يقاتل عنها الله الذى آمنوا به.
وتبادلنا التهانى بفوز ضياء رشوان نقيبًا.. وأتصوّر أن أولى مهامه هى إدانة السلطات المصرية التى لم تتدخّل للدفاع عن أبنائها المسيحيين، الذين اعتقلهم رجال الأمن الوقائى الليبى، وأدانوهم بتهمة التبشير التى يحظرها القانون الليبى، ونفّذوا العقوبة بأيديهم قبل مثول المتهمين أمام النيابة للتحقيق.. صرخات المواطنين المصريين أوصلها الإعلام المرئى والمكتوب إلى كل المسؤولين فى مصر، ومن أكثر من مصدر، وبأفلام مصوّرة تؤكّد اعتقالهم وتعذيبهم.. ومع ذلك غض الرئيس محمد مرسى الطرف.. وتغابى د.قنديل رئيس وزرائنا فى لقائه مع نظيره الليبى علِى زيدان، فى مصر، عن طرح قضيتهم.. وتعامى السفير المصرى فى ليبيا مكتفيًا بالشجب والأسف.. حتى أفرجوا عن المتهمين تباعًا، ما عدا خمسة قتل منهم عزت من شدة التعذيب.. ووصل مصر طردًا محمولًا فى صندوق ليضاف اسمه إلى شهداء المسيحية فى عصر مرسى.. المصريون الذين تجاهلهم الرئيس المصرى هم الشباب الهارب من جحيم ذل نهضة البطالة والجوع والخوف فى مصر.. اعتادوا النوم كالسردين على الأرض فى حجرات معتمة تؤجّر ساعات النوم فقط فى دول النفط.. يقتاتون من فتات موائد الأسياد، ويعودون جثثًا أو أحياءً فى توابيت، وكتبنا ولم يقرأ الحكام.. والآن حان وقت القصاص.