كلنا يتذكر خالد سعيد، ذلك الشاب السكندرى الذى قتل على أيدى مخبرين تابعين لأجهزة الأمن. وبدلا من أن تقوم الأجهزة المعنية وقتها بالتحقيق فى ملابسات الحادث لإظهار الحقيقة، تعمدت التستر على الجناة، وقامت بتلفيق قضية تعاطى مخدرات للمجنى عليه، وضغطت على هيئة الطب الشرعى، لإصدار تقرير كاذب يؤكد وفاة المجنى عليه بالاختناق، عقب ابتلاعه المتسرع لفافة بانجو انحشرت فى زوره!.
لقد وقعت جريمة قتل خالد سعيد فى مرحلة حراك سياسى واعد كانت تقوده فى ذلك الوقت الجمعية الوطنية للتغيير، جنبا إلى جنب مع العديد من القوى السياسية الأخرى ومنظمات المجتمع المدنى، لذا سرعان ما تحولت إلى قضية رأى عام، كاشفة مدى ما وصل إليه جبروت النظام، وتسلط الأجهزة الأمنية على جميع مفاصله، بما فى ذلك وزارة العدل ومصلحة الطب الشرعى، وأصبحت إحدى أهم وسائل الحشد والتعبئة ضد هذا النظام. ولم يكن غريبا، فى سياق كهذا، أن تتشكل مجموعة شبابية تحمل اسم «كلنا خالد سعيد»، وأن تنطلق من موقعها على الشبكة الإلكترونية الدعوة للتظاهر والاحتجاج، يوم 25 يناير بمناسبة «عيد الشرطة»، دون أن تدرى أن دعوتها هذه ستكون بمثابة شرارة التفجير لثورة مصرية كبرى.
وكما كانت قضية خالد سعيد قضية كاشفة لجبروت نظام أسقطت الثورة المصرية رأسه، يبدو أن قضية محمد الجندى فى طريقها للتحول بدورها إلى قضية كاشفة لحقيقة أشد مرارة، وهى أن النظام الذى أسقطت ثورة يناير رأسه ما زال قائما يضرب بجذوره عميقا فى تربة الاستبداد، ويمارس الحكم بنفس أدوات النظام السابق، دون أن يتغير شىء سوى أسماء الضحايا والجلادين، فالمجنى عليه اسمه هذه المرة محمد الجندى، بدلا من خالد سعيد. ولأنه ناشط سياسى معروف، هذه المرة، وليس مواطنا عاديا كخالد سعيد، فمن الطبيعى أن تثور شكوك جادة حول احتمال تعرضه للتعذيب والقتل العمد، أما السبب المعلن أو «الملفق» للوفاة، هذه المرة، فجاء على صورة «ارتطام بمواد صلبة نتيجة حادث سيارة»، بدلا من «الاختناق بسبب ابتلاع لفافة بانجو». ويبدو واضحا تماما أن شبهة التدليس، ومحاولة التستر على الجريمة تحيط بذات الجهات المتورطة فى جريمة خالد سعيد: أجهزة الأمن، النائب العام، هيئة الطب الشرعى، وزير الداخلية، وزير العدل.. إلخ.
لم أعلق آمالا كبيرة منذ البداية على حكومة هشام قنديل، وأدهشنى كثيرا أن تأتى أول حكومة مصرية يشكلها أول رئيس منتخب فى تاريخ مصر على هذا المستوى المتدنى سياسيا ومهنيا. ومع ذلك كان اختيار المستشار أحمد مكى، الذى أكن له احتراما كبيرا، وزيرا للعدل، موفقا إلى حد كبير، وبدا لى وقتها وكأنه نقطة ضوء فى بحر من ظلام دامس. لذا كانت صدمتى كبيرة، حين أعلن الرجل بنفسه، وبتعجل غير مبرر، أن وفاة محمد الجندى وقعت نتيجة حادث سيارة وليس بسبب التعذيب، وكانت صدمتى أكبر، حين سمعته يبرر هذا التعجل بأن وزير الداخلية هو من طلب منه الإدلاء بهذا التصريح، بناء على تقرير أولى صادر من هيئة الطب الشرعى. ولأنه يفترض فى رجل تأتى به الثورة، وزيرا للعدل، خصوصا حين يكون فى قامة وقيمة المستشار أحمد مكى، ألا يكون مجرد موظف عند وزير الداخلية، فقد أكدت تصريحاته أمرا واحدا وقر فى يقين الشعب، وهو أن النظام السابق ما زال يحكم، وأن مطالب وأهداف الثورة لم تتحقق بعد. أليس من المدهش حقا أن يحاط وزير الداخلية علما بمضمون تقرير للطب الشرعى، قبل أن يصل إلى يد وزير العدل، من خلال النائب العام، وألا يثير ذلك شكوكا حول النتيجة التى توصل إليها هذا التقرير؟
من الواضح أن قضية محمد الجندى لن تطوى بسهولة، وأنها أصبحت مرشحة للتصعيد إلى أن تنفجر فى وجه النظام الحالى، مثلما انفجرت قضية خالد سعيد فى وجه النظام السابق. وكما كان خالد سعيد هو الشرارة التى فجرت ثورة يناير، فليس من المستبعد أبدا أن يكون محمد الجندى هو الشرارة التى قد تشعل ثورة تصحيح المسار.