أينما تذهب أو تأتى بك السكك سوف تجد من يسألك «مصر إلى أين؟!» بل فى كل مرة تنتابنى الشكوك، إما أن السائل يعرف فعلاً إلى أين تسير مصر، أو أنه ليس مخلصاً فى السؤال من الأصل، وأنه يريد أن يفتح نوعاً من الحوار الشيق، الذى يثبت فيه أن من وقع عليه السؤال لا يعرف شيئاً عن المستقبل، وهى متعة لمصريين يشكون فى أن مثقفيهم يعرفون شيئاً من الأصل. السؤال ليس جديداً بالمرة، ليس فقط لأن الشك وانعدام اليقين صاحب العديد من النظم الحاكمة المصرية؛ ولكن لأن أحداً لا يريد أن يضع على طاولة الحوار نقطة البداية والنهاية فى الإجابة، فنحن مثلا لا نريد ذكر الأرقام المعبرة عن الحالة الاقتصادية والاجتماعية السائدة قبل ثورة يناير، ثم نقارنها بذات الأرقام بعدها لكى نعلم أولاً ما إذا كنا نتقدم أو نتأخر، ولكى نتبصر ثانياً فى معرفة المستقبل بأن نأخذ أحوال الحاضر، ونمتد بها إلى المستقبل، لكى نعرف ما إذا كنا سائرين فى سكة السلامة أو سكة الندامة أو سكة اللى يروح ما يرجعش، كما يذاع فى القول أحياناً. مثل ذلك يبدو معتماً، ولا يريد أحد أن يحبط الشعب بأن ينقل له، على سبيل المثال، أن تقرير صناعة السياحة الدولية وضع مصر فى المكانة الأخيرة والأقل أمناً وسلامة بين ١٤٠ دولة، وجاءت بعد باكستان واليمن وتشاد.
ربما كنا لا نحتاج لهذا التقرير، لأننا نعرف أن السياحة التى كانت تجلب ١٤ مليون سائح ومليارات الدولارات قد جرى لها انهيار كامل، وهو انهيار كاشف عن الحالة الأمنية والاقتصادية فى البلاد، وربما كان الأهم الحالة العقلية، حيث لم يكن مفهوماً أبدا لماذا تقوم جماعات بالهجوم على فندقى سميراميس وشبرد وغيرهما، يبدو ذلك بعدما انتابها الملل من الإقامة فى ميدان التحرير.
بمثل هذه البساطة نستطيع أن نعرف إلى أين تذهب مصر بأن نبدأ من النقطة التى كنا عندها، ثم نعرف النقطة التى أصبحنا لديها بعد أكثر من عامين من التغيير الثورى، ثم نقرر إلى أين تأخذنا هذه النقطة إذا استمرت على حالها، أو إذا واتتنا الشجاعة، وقررنا تغيير هذه النقطة ليس بالعودة إلى ماضيها، وإنما بتحديد الذى نذهب إليه فى مستقبلها.
هنا لا ينفع كثيراً ما يحاوله زملاء العلوم السياسية الذين يبدأون من النفى الكامل لعهد ما قبل الثورة باعتباره كان زمناً للفساد والنهب وإهدار موارد البلاد والتراجع الإقليمى والدولى إلى آخر القائمة، ولا شك أن بعضها صحيح، ولكن المعضلة أنه لا يجرى أبداً تقييم قدره ومقارنته بالوضع الراهن وفق نفس معايير الإنتاجية والحرية والعدالة الاجتماعية وحتى الكرامة الإنسانية، ولا ينفع فى نفس الوقت ما يقوم به زملاء آخرون فى «البحث عن جودو»، الذى لا يجىء أبداً لكى يصلح ما اعوج من أمر الثورة سواء كان جودو وحدة أحزاب المعارضة، أو خضوع السلطة الحاكمة المنتخبة لمطالب المعارضة فى المشاركة فى السلطة، أو عودة القوات المسلحة لإدارة البلاد مرة أخرى حتى ولو فى صورة معدلة. هنا يجرى تسليم المستقبل إلى حالة افتراضية أخرى قد تخطئ وقد تصيب، قد تكون سكة السلامة، أو الأغلب أنها سكة الندامة أو اللى يروح ما يرجعش.
المستقبل فى حقيقته تصنعه الأمة، ومن يدهش ويقول إن الرئيس مبارك وسلطة حكمه ذهبا، بينما نظام حكمه بقى كما هو كلام فيه قدر كبير من الحقيقة، ولكن الكلمات لابد أن تستكمل، وهى أن النظام الذى تركه مبارك لم يكن الحزب الوطنى الديمقراطى الذى جرى حله، وإنما بنية اجتماعية واقتصادية وثقافية متكاملة تشمل ملايين من المواطنين المصريين.
لقد تسلم مبارك نظاماً للدعم ممن سبقوه، وظل هذا النظام كما هو على قلب الموازنة العامة بحيث تتحمل موارد الدولة تكلفة بقاء الفقراء فى مصر فقراء حتى نهاية العمر. لم يعترض أحد من الثوار على هذه الحقيقة، بل إن شعار «العدالة الاجتماعية» ظل يعنى مزيداً من توزيع الثروة الوطنية من خلال الدعم العينى والنقدى، الذى أدى إلى تدهور الاحتياطيات الوطنية من ٤٥ مليار دولار (تسعة منها نجمت عن مشاركة مصر فى حرب الخليج، والباقى ٣٦ كان نتيجة الجهد المصرى فى قطاعات السياحة والصادرات وقناة السويس والعمل فى الخارج) إلى ١٣.٥ مليار (أربعة منها سبائك ذهبية وخمسة دعماً للاحتياطى من السعودية وقطر)، ولكن ربما كان الاحتياطى القومى ليس معبراً بما فيه الكفاية عن الاتجاه الذى نسير فيه، الذى لا يمكن بأى حال إلقاء تبعاته على الحكومة أو مؤسسة الرئاسة، لأن أحداً فى المعارضة لم يقل لنا كيف سوف يعالج الأمر بطريقة مختلفة. لنأخذ التعليم على سبيل المثال، لقد تسلم ثوار يوليو مصر ونسبة المتعلمين فى سن التعليم ٢٥٪، وبعد ربع قرن من الثورة المباركة بلغت النسبة فى عام ١٩٧٥ ما مقداره ٣٢٪ وفى عام ٢٠٠٨ قبل الإطاحة بالنظام البائد كانت النسبة ٧٢٪.
فى اليابان كانت النسبة ١٠٠٪ عام ١٩٠٦ أى قبل قرن أو أكثر من الآن، ولم نفلح فى ظل النظم الملكية والجمهورية والثورية المتعاقبة أن نلحق بها، خاصة وقد تعقد الأمر الآن، وبات التعليم شاملاً القراءة والكتابة والحساب والإجادة الإلكترونية، التى نحذفها فى إحصائياتنا. الحقائق الاقتصادية والعمرانية والاجتماعية معروفة، ولكن مسكوت عنها، ليس خوفاً مما يبدو إشادة بنظام قديم يستحق اللعنة، ولكن للحقيقة لأنه ليست لدينا الشجاعة بعد إلقاء اللعنة على هذه الأرقام والقول بأننا نريد تحقيق المزيد، ونريد اللحاق بالدول التى سبقتنا.
ما نفعله هو أننا نضيف إخفاقاً أكبر على إخفاق سابق، ونحضر لمستقبل تكون فيه مكانتنا متأخرة بين الأمم. الجديد فى الأمر أن ما تحقق يحتاج تكلفة لاستمراره، وعلى سبيل المثال فإن ٣٥٪ فقط من المصريين كانوا يتمتعون بنعمة الكهرباء عام ١٩٧٥، ووصل هذا الرقم إلى ٩٩٪ عام ٢٠٠٨، هنا يكون السؤال هل يمكن لهذه النسبة أن تستمر على حالها، وكم يتكلف ذلك، وقد وصل عدد المصريين إلى ٨٤ مليون مقيم ومعهم ٨ ملايين يأتون ويذهبون، وربما ذات يوم يعود ١٤ مليون سائح يستهلكون الكهرباء والماء.
السؤال: مصر إلى أين؟ ليس صعبا على الإجابة إذا عرفنا أن الناتج المحلى الإجمالى لمصر مقدراً بالقدرة الشرائية للدولار كان عام ٢٠١٠ ما مقداره ٤٩٧.٨ مليار دولار، وكان نصيب الفرد ٦٢٠٠ دولار، فما الأرقام التى نريد الذهاب إليها، وهل نحن على استعداد لتحمل المسؤولية والتكلفة السياسية والاقتصادية للوصول إلى الأهداف التى نريد تحقيقها؟ الأسئلة كلها للحكم والمعارضة معاً، وخوفى أن أحداً هنا لا يريد الإجابة، وينظر إلى الجهة الأخرى تجاهلاً أو جهلاً أو استعباطاً، وذلك طريق من يذهب إليه غالباً لا يعود!