لم يكتفِ أصحاب النهضة مما يحدث فى ربوع مصر من نهضة اقتصادية وفكرية وأمنية، فقرروا أن يحيلوها أيضًا إلى نهضة سينمائية.
أمس، كان من المفروض أن يُعرض فيلم «التقرير»، باكورة إنتاج أفلام النهضة فى قاعة سيد درويش التابعة لأكاديمية الفنون، البعض اعتقد أن القضية هى فى كيف يسمح بتداول فيلم قبل موافقة الرقابة، وهو ما فتح الباب إلى تأكيد انحياز السلطة إلى صبغ مصر بكل ألوان الطيف الإخوانية، سعر الدعوة وصل إلى 100 جنيه، والتوصيل بسبعة، أثارت العديد من التساؤلات، هل من الممكن أن يدفع مواطن مصرى هذا الرقم فى فيلم يلعب بطولته محمد شومان، ومعه عدد من الفنانات الصاعدات المحجبات، كل ما سبق ذكره بالطبع يستحق الاهتمام، ولكن فى الحقيقة ما توقّفت عنده هو تلك التقسيمة القادمة بين سينما إسلامية مقدّمة طبقًا للشريعة، وأخرى ليبرالية مقدمة طبقًا للمعايير الفنية. مثلما استطاع الإخوان بغشومية زرع الفرقة فى ربوع الوطن بين مَن لديه لحية إخوانية أو سلفية أو مَن تضع الحجاب والنقاب، ومَن يؤمن أن الله لا ينظر إلى وجوهنا ولكن إلى قلوبنا.
ما أراه فى هذه الأعمال الفنية، أنها تسعى إلى تأكيد تلك الفرقة بين أبناء الوطن الواحد، حيث يصبح كل شىء يسير فى اتجاهين متعارضين، مجتمع يرنو إلى الحرية ويريد أن يبنى من جديد دعائم المواطنة على أسس مدنية، بينما دولة من خلال فصيل واحد تسعى لكى تُقسّم الوطن بين ذقن ولحية وحجاب ونقاب، فتقدّم لهم سينما على مذاقهم.
لم أشاهد الفيلم، ولكن من السهل جدًّا أن تكتشف من خلال حجاب الممثلات على الأفيش، كيف أن هناك مَن يرى الأمر على هذا النحو، تطبيق معايير دينية صارمة على الشاشة، ولن أتعجّب مثلًا إذا شاهدت الفيلم، ولم أجد به موسيقى وترية، حيث إن بعض المتزمتين حرموا الوتر وأحلوا الدُف، أى أنهم حرموا النغم وأبقوا فقط على الإيقاع. معادلة بالطبع لا تستقيم، ولكن هكذا عشنا مع هؤلاء الذين لا يرون أبعد من أقدامهم، فهم يعتبرون أن هذا هو موقف السلف الصالح، وهم حريصون على الاقتداء بمن سبقهم دون مراعاة لفروق التوقيت وحدود الجغرافيا. أنا أنتظر فى الحقيقة ما تسفر عنه التجربة، عندما يشاهدها الناس ونعثر وقتها على الإجابة: هل من الممكن أن نرى عملًا فنيًّا بتلك المعايير الصارمة.
لا أخشى على الفن بقدر ما أخشى وأتحسّب من تلك الحالة من الاستقطاب الحادثة بين كل الأطراف المتصارعة، والتى من الممكن أن تُسفر عن تباين فى وجهات النظر تؤدّى إلى فرقة أبناء الوطن الواحد، بينما مرسى ورفاقه سوف يعتبرونها ورقة ضغط لصالحهم.
لست ضد أن تقدّم أعمالًا إبداعية من خلال شركات تضع أمامها مبادئ متحفّظة، ولكنى ضد إطلاق تعبير شرعى وإسلامى، لقد حاولوا أن ينحتوا من قبل تعبيرات أدب إسلامى وموسيقى إسلامية ومسرح إسلامى، وغيرها، والصحيح هو أن تقول إبداعًا أو لا إبداع، سوف نكتشف أن قسطًا وافرًا من الفنانين فى الحقيقة لا يعنيهم أن يُقدّموا أعمالًا فنية بقدر ما يستوقفهم فقط أنهم مطلوبون فى السوق، كثير من الفنانين سوف نشاهدهم وهم يرقصون على إيقاعين مختلفين فى نفس الوقت، مثلًا فى 2007 كان يُعرض فيلمى «علىّ الطرب بالثلاثة»، و«كامل الأوصاف»، الفيلم الثانى بطولة حلا شيحة، كان يدعو لارتداء الحجاب، ويقدّم المرأة المحجبة باعتبارها هى النموذج، بينما كان الفيلم الأول يتباهى بسيقان ورقص دينا، أخرج الفيلمين أحمد البدرى، عدد من فنانينا هم هذا الرجل الذى من الممكن أن يقدّم العمل الفنى الذى ترضى عنه جهة الإنتاج، أما قناعات الفنان فهى خارج نطاق الخدمة.
«التقرير» من الممكن أن يُصبح هو بداية الغيث الإخوانى من خلال فرض أفكارهم ولا بأس من أن تجد مَن يبدأ فى شن حملات ضد مَن يقف على الشاطئ الآخر، وسوف نرى أننا لسنا بصدد عمل فنى، ولكن توجه صارم يرى فقط أنه الحق ويصادر حق الآخرين فى الاختلاف. تفاصيل عديدة تشير إلى أن «التقرير» فيلم متواضع فنيًّا، وعندما يفكر صنّاعه فى استثماره التجارى، فهذا يعنى أنه مجرد «بلوف» درامى، أنتظر عرضه، سأشاهده باعتبارى مواطن فى دار العرض، حتى لو قرر صناعه أنه ممنوع الدخول إلا لأصحاب اللحى، سأضع واحدة وأنتزعها بعد نهاية العرض.